744ـ خطبة الجمعة: أريحوا أنفسكم في ساعات الابتلاء

744ـ خطبة الجمعة: أريحوا أنفسكم في ساعات الابتلاء

744ـ خطبة الجمعة: أريحوا أنفسكم في ساعات الابتلاء

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ التَّقْوَى وَالصَّبْرُ ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. وَهَذَا هُوَ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبِهَذَا أُمِرَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأُمِرَ أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ للنَّاسِ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. فَسَبِيلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التَّقْوَى وَالصَّبْرُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مَجِيءَ الفَرَجِ وَالنَّصْرِ وَتَفْرِيجَ الكَرْبِ يَكُونُ في آخِرِ أَشْوَاطِ الكِفَاحِ وَالصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ بَعْدَ تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

نَعَمْ قَدْ يَتَأَخَّرُ الفَرَجُ مُدَّةً، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ هَذِهِ الحِكَمِ تَمْيِيزُ الخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَالطَّالِحِ مِنَ الصَّالِحِ، وَالمُنَافِقِ مِنَ المُؤْمِنِ.

الفَرَجُ لَا يَأْتِي في أَوَّلِ الطَّرِيقِ، إِنَّمَا يَأْتِي في آخِرِهِ، وَلَو جَاءَ أَوَّلَ الطَّرِيقِ لَمَا صَارَ هُنَاكَ تَمْيِيزٌ بَيْنَ العِبَادِ، فَفِي تَأَخُّرِ الفَرَجِ اخْتِبَارٌ للنَّاسِ، وإِظْهَارٌ لِمَنْ يَعْبُدُ اللهَ تعالى عَلَى سَائِرِ الأَحْوَالِ، مِمَّنْ يَعْبُدُ اللهَ تعالى عَلَى حَرْفٍ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.

أَرِيحُوا أَنْفُسَكُمْ في سَاعَاتِ الابْتِلَاءِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَرِيحُوا أَنْفُسَكُمْ في سَاعَاتِ الابْتِلَاءِ، وَأَنْتُمْ تَسْتَحْضِرُونَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا يَنْتَظِرُكُمْ بَعْدَ تَقْوَاكُمْ وَصَبْرِكُمْ، لِأَنَّهُ مَا ابْتَلَاكُمْ إِلَّا لِيَمْنَحَكُمْ، اقْرَؤُوا كِتَابَ اللهِ تعالى، وَانْظُرُوا في سِيرَةِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسلِينَ وَالصَّالِحِينَ، لَقَدِ ابتِلَاهُمُ اللهُ تعالى، واشْتَدَّ البَلَاءُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ بَعْدَ تَقْوَاهُمْ وَصَبْرِهِمْ جَاءَتِ المِنَحُ الإِلَهِيَّةُ التي رَفَعَتْ عَنْهُمُ الآلَامَ وَالأَحْزَانَ، وَأَنْسَتْهُمْ كُلَّ المَصَاعِبِ وَالمَتَاعِبِ.

نَعَمْ، لَوْلَا الابْتِلَاءُ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَكَانَ مُدَلَّلًا في حُضْنِ أَبِيهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ الابْتِلَاءِ مَعَ تَقْوَاهُ وَصَبْرِهِ صَارَ مُمَكَّنًا في الأَرْضِ وَعَزِيزًا في مِصْرَ.

لَقَدْ مَرَّ بِمِحَنٍ قَاسِيَةٍ فَصَبَرَ عَلَيْهَا، وَكَانَ مُتَّقِيًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا غَيَّرَتْهُ المِحَنُ، لَقَدْ مَرَّ بِمِحْنَةِ كَيْدِ الإِخْوَةِ وَحِقْدِهِمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ بِمِحْنَةِ الجُبِّ وَفِرَاقِ أَهْلِهِ وَأَحْبَابِهِ، ثُمَّ بِمِحْنَةِ الرِّقِّ وَبَيْعِهِ كَسِلْعَةٍ بِأَبْخَسِ الأَثْمَانِ، مَعَ أَنَّهُ الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾.

ثُمَّ جَاءَتْ مِحْنَةُ الشَّهْوَةِ وَالفِتْنَةِ وَالإِغْرَاءِ وَكَيْدِ النِّسَاءِ، وَخَاصَّةً مِنِ امْرَأَةِ العَزِيزِ (امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ) ثُمَّ جَاءَتْ مِحْنَةُ السِّجْنِ بَعْدَ العَيْشِ الرَّغِيدِ الرَّافِهِ في قَصْرِ عَزِيزِ مِصْرَ.

بَعْدَ هَذِهِ المِحَنِ القَاسِيَةِ جَاءَتِ المِنَحُ، صَارَ عَزِيزَ مِصْرَ، وَجَمَعَ اللهُ تعالى شَمْلَهُ مَعَ أَبَوَيْهِ وإِخْوَتِهِ، وقَدْ صَرَّحَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ في هَذِهِ الآوِنَةِ، رَاجِعُوا الحِسَابَاتِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَنْفُسِكُمْ، وَانْظُرُوا فِيمَا تَقُولُونَ في الشَّدَائِدِ، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ القَدَرَ مُوَكَّلٌ بِالمَنْطِقِ، فَمَا تَقُولُونَهُ سَوْفَ تَلْقَوْنَهُ، فَلَا تَقُولُوا إِلَّا خَيْرًا، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَبِّكُمْ، وَتَضَرَّعُوا لِمَنْ يَسْمَعُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ المَلْسَاءِ في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ هُنَاكَ أَمْرًا يَنْتَظِرُكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مِمَّنِ اتَّقَى وَصَبَرَ وَكَانَ مُحْسِنًا، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِنِعْمَةِ التَّقْوَى، وَجَمِّلْنَا بِالصَّبْرِ، وَنَسْأَلُكَ العَافِيَةَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 9/ جمادى الآخرة /1442هـ، الموافق: 22/كانون الثاني / 2021م

 2021-01-21
 7061
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 177 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 177
12-04-2024 843 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 843
09-04-2024 602 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 602
04-04-2024 708 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 708
28-03-2024 617 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 617
21-03-2024 1090 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1090

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413492722
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :