1ـ أسرار المجالسة

1ـ أسرار المجالسة

1ـ أسرار المجالسة

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ أَقُولُ:

الإِنْسَانُ بِطَبِيْعَتِهِ عِنْدَهُ حُبٌّ وَوَلَهٌ فِي مُحَاكَاةِ مَنْ حَوْلَهُ، وَهُوَ شَدِيدُ التَّأَثُّرِ بِمَنْ يُصَاحِبُهُ، لِذَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ حَرِيصٍ عَلَى آخِرَتِهِ، وَسَلَامَةِ دُنْيَاهُ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ مَوَدَّةَ الصَّالِحِينَ وَالأَخْيَارِ سَرِيعٌ اتِّصَالُهَا، وَبَطِيءٌ انْقِطَاعُهَا، عَلَى عَكْسِ مَوَدَّةِ الأَشْرَارِ، فَهِيَ سَرِيعَةُ الانْقِطَاعِ، بَطَيئَةُ الاتِّصَالِ.

صُحْبَةُ الأَخْيَارِ تُورْثُ الخَيْرَ، وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ تُورِثُ الشَّرَّ، فَانْظُرْ لِمَنْ تُجَالِسُ؟

يَقُولُ سَيِّدِي أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الْجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَالْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

أَسْرَارُ المُجَالَسَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المُجَالَسَةُ لَهَا أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ، عِنْدَمَا قَالَ سَيِّدُنَا حَنْظَلَةُ الْأُسَيِّدِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ.

فَلْنَكُنْ حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى مُجَالَسَةِ العَارِفِينَ وَالصَّالِحِينَ وَالأَوْلِيَاءِ وَالأَخْيَارِ الَّذِينَ تَحَقَّقُوا بِالصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى أَبُو يَعْلَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟

قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ».

وَيَقُولُ الإِمَامُ سَيِّدِي أَحْمَد الرِّفَاعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ البُرْهَانِ المُؤَيَّدِ: أَيْ سَادَة، جَالِسُوا العُلَمَاءَ وَالعُرَفَاءَ، فَإِنَّ لِلْمُجَالَسَةِ أَسْرَارًا تَقْلِبُ الجُلَّاسَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.

قَالَ بَعْضُ العَارِفِينَ: مَنْ جَلَسَ مَعَ ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ زَادَهُ اللهُ ثَمَانِيَةَ أَشْيَاءَ:

1ـ مَنْ جَلَسَ مَعَ الأُمَرَاءِ زَادَهُ اللهُ الكِبْرَ وَقَسَاوَةَ القَلْبِ.

2ـ وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الأَغْنِيَاءِ زَادَهُ اللهُ الحِرْصَ فِي الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

3ـ وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الفُقَرَاءِ زَادَهُ اللهُ الرِّضَا بِمَا قَسَمَهُ اللهُ تَعَالَى.

4ـ وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الصِّبْيَانِ زَادَهُ اللهُ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ.

5ـ وَمَنْ جَلَسَ مَعَ النِّسَاءِ زَادَهُ اللهُ الجَهْلَ وَالشَّهْوَةَ.

6ـ وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الصَّالِحِينَ زَادَهُ اللهُ الرَّغْبَةَ فِي الطَّاعَةِ.

7ـ وَمَنْ جَلَسَ مَعَ العُلَمَاءِ زَادَهُ اللهُ العِلْمَ وَالوَرَعَ.

8ـ وَمَنْ جَلَسَ مَعَ الفُسَّاقِ زَادَهُ اللهُ الذَّنْبَ وَتَسْوِيفَ التَّوْبَةِ.

وَوَرَدَ أَيْضًا: الصُّحْبَةُ مَعَ العَاقِلِ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الأَحْمَقِ نُقْصَانٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَحَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ عِنْدَ المَوْتِ وَخَسَارَةٌ فِي الآخِرَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَقَائِقِ عَنِ التَّصَوُّفِ: إِنَّ لِلصُّحْبَةِ أَثَرًا عَمِيقًا فِي شَخْصِيَّةِ المَرْءِ وَأَخْلَاقِهِ وَسُلُوكِهِ، وَالصَّاحِبُ يَكْتَسِبُ صِفَاتِ صَاحِبِهِ بِالتَّأَثُّرِ الرُّوحِيِّ وَالاقْتِدَاءِ العَمَلِيِّ، وَالإِنْسَانُ اجْتِمَاعِيٌّ بِالطَّبْعِ لَا بُدَّ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ وَيَكُونَ لَهُ مِنْهُمْ أَخِلَّاءُ وَأَصْدقَاءُ، فَإِنِ اخْتَارَهُمْ مِنْ أَهْلِ الفَسَادِ وَالشَّرِّ وَالفُسُوقِ وَالـمُجُونِ انْحَدَرَتْ أَخْلَاقُهُ، وَانْحَطَّتْ صِفَاتُهُ تَدْرِيجِيًّا دُونَ أَنْ يَشْعُرَ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَضِيضِهِمْ وَيَهْوِيَ إِلَى دَرْكِهِمْ.

أَمَّا إِذَا اخْتَارَ صُحْبَةَ أَهْلِ الإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالاسْتِقَامَةِ وَالمَعْرِفَةِ بِاللهِ تَعَالَى فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَرْتَفِعَ إِلَى أَوْجِ عُلَاهُمْ، وَيَكْتَسِبَ مِنْهُمُ الخُلُقَ القَوِيمَ، وَالإِيمَانَ الرَّاسِخَ، وَالصِّفَاتِ العَالِيَةَ، وَالـمَعَارِفَ الإِلَهِيَّةَ، وَيَتَحَرَّرَ مِنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ، وَرُعُونَاتِ خُلُقِهِ، وَلِهَذَا تُعْرَفُ أَخْلَاقُ الرَّجُلِ بِمَعْرِفَةِ أَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ.

إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ   ***   وَلَا تَصْحَبِ الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي

عَنِ المَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلَ عَـنْ قَرِينِهِ   ***   فَكُلُّ قَــرِينٍ بِالـمُــقَارَنِ يَـقْــــتَــدِي

وَمَا نَالَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ هَذَا المَقَامَ السَّامِيَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي ظُلُمَاتِ الجَاهِلِيَّةِ إِلَّا بِمُصَاحَبَتِهِمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمُجَالَسَتِهِمْ لَهُ، وَمَا أَحْرَزَ التَّابِعُونَ هَذَا الشَّرَفَ العَظِيمَ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ مُجَالَسَةِ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ العَامِلِينَ الصَّالِحِينَ المُصْلِحِينَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 17/ ذو القعدة /1446هـ، الموافق: 15/ أيار / 2025م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  وصايا لأهل السير والسلوك

15-06-2025 20 مشاهدة
10ـ من لم يجد شيخًا يربيه ويرقيه

اعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا بَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، فَمَنْ كَانَتْ بَصِيرَتُهُ نَافِذَةً لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ عُيُوبُهُ، فَإِذَا عَرَفَ الْعُيُوبَ أَمْكَنَهُ الْعِلَاجُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ ... المزيد

 15-06-2025
 
 20
11-06-2025 52 مشاهدة
9ـ الآداب هي مفتاح الباب

فَالتَّصَوُّفُ كُلُّهُ آدَابٌ، فَمَنِ الْتَزَمَ الأَدَبَ وُفِّقَ للأَفْعَالِ الصَّالِحَةِ، وَإِلَّا رُدَّ إلى الأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ، مَنِ الْتَزَمَ الأَدَبَ وُفِّقَ للصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ التي تُعَلِّمُهُ الأَدَبَ وَالأَخْلَاقَ، وَتَجْعَلُهُ ... المزيد

 11-06-2025
 
 52
09-06-2025 50 مشاهدة
8ـ الذكر منشور الولاية

فَإِنَّ أَلَذَّ شَيْءٍ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى بِقَلْبٍ حَاضِرٍ؛ وَرَدَ في بَعْضِ الآثَارِ أَنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: إِلَهِي، أَقَرِيبٌ فَأُنَاجِيَكَ؟ أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيَكَ؟ فَقَالَ: ... المزيد

 09-06-2025
 
 50
04-06-2025 31 مشاهدة
7ـ آداب الذكر

يَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَفْرِضِ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا في حَالِ العُذْرِ، غَيْرَ الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ... المزيد

 04-06-2025
 
 31
04-06-2025 42 مشاهدة
6ـ الذكر أصل كل مقام وقاعدته

الذِّكْرُ يُثْمِرُ المَقَامَاتِ كُلَّهَا مِنَ اليَقَظَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَيُثْمِرُ المَعَارِفَ وَالأَحْوَالَ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَيْلِ ثِمَارِهَا إِلَّا مِنْ شَجَرَةِ الذِّكْرِ، وَكُلَّمَا عَظُمَتْ ... المزيد

 04-06-2025
 
 42
26-05-2025 56 مشاهدة
5ـ صحبة الأولياء ترياق مجرّب

الوَاجِبُ عَلَى المُرِيدِ الصَّادِقِ أَنْ يَتَحَرَّى بِغَايَةِ جُهْدِهِ مُصَاحَبَةَ الأَخْيَارِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَجْعَلُ الشِّرِّيرَ خَيِّرًا، كَمَا أَنَّ مُصَاحَبَةَ الأَشْرَارَ قَدْ تَجْعَلُ الخَيِّرَ شِرِّيرًا. مَنْ صَحِبَ خَيِّرًا أَصَابَتْهُ ... المزيد

 26-05-2025
 
 56

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5702
المقالات 3231
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424096434
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :