2ـ من آداب الصحبة

2ـ من آداب الصحبة

2ـ من آداب الصحبة

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِصُحْبَةِ الصَّالِحِينَ وَالعُلَمَاءِ العَامِلِينَ، وَأَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِمُصَاحَبَةِ الذَّاكِرِينَ: احْرِصْ عَلَى هَذِهِ الصُّحْبَةِ، فَهِيَ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ﴾.

كَمْ وَكَمْ مِمَّنْ حُرِمَ صُحْبَةَ الأَخْيَارِ، صُحْبَةَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، الَّذِينَ يَدُلُّونَ الخَلْقَ عَلَى اللهِ تَعَالَى.

مُصَاحَبَتُهُمْ تُذِيقُكَ حَلَاوَةَ الطَّرِيقِ، وَتَنْهَضُ بِحَالِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَرْفَعُكَ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ.

مِنْ آدَابِ الصُّحْبَةِ:

حَتَّى يَنَالَ أَحَدُنَا حَلَاوَةَ الطَّرِيقِ، وَشَدِّ الهِمَّةِ العَالِيَةِ، لَا بُدَّ مِنِ اسْتِغْنَامِ الحُضُورِ مَعَهُمْ، مَعَ الإِخْلَاصِ وَالهِمَّةِ العَالِيَةِ، كَمَا قَالَ سَيِّدِي العَارِفُ بِاللهِ تَعَالَى الغَوْثُ أَبُو مَدْيَنَ الأَنْدَلُسِيُّ التِّلْمِسَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، شَيْخُ أَهْلِ المَغْرِبِ وَقُدْوَتُهُمْ، وَشَيْخُ الشُّيُوخِ وَأَعْلَمُهُمْ، مِنْ أَفْرَادِ الرِّجَالِ، وَمِنْ صُدُورِ الأَوْلِيَاءِ، جَمَعَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالحَقِيقَةِ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ العُلَمَاءِ، وَحُفَّاظِ الحَدِيثِ؛ لِنَسْمَعْ مَا قَالَهُ هَذَا العَارِفُ الكَبِيرُ:

مَــا لَـذَّةُ الـعَيْشِ إِلَّا صُـحْبَةُ الـفُقَرا    ***   هُمُ الـسَّلَاطِينُ وَالسَّادَاتُ وَالأُمَـرَا

فَاصْحَبْهُمُ وَتَأَدَّبْ فِي مَـجَــالِسِهِــمْ   ***   وَخَــلِّ حَـــظَّكَ مَهْمَا قَـدَّمُوكَ وَرَا

وَاسْتَغْنِمِ الوَقْتَ وَاحْضُرْ دَائِمًا مَعَهُمْ    ***   وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرِّضَا يَخْتَصُّ مَنْ حَضَرَا

يَقُولُ سَيِّدِي أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ: مَا لَذَّةُ عَيْشِ السَّالِكِ فِي طَرِيقِ مَوْلَاهُ إِلَّا صُحْبَةُ الفُقَرَاءِ، اصْحَبِ الفُقَرَاءِ وَتَأَدَّبْ مَعَهُمْ فِي مُجَالَسَتِهِمْ فَإِنَّ الصُّحْبَةَ شَبَحٌ وَالأَدَبُ رُوحُهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ لَكَ بَيْنَ الشَّبَحِ وَالرُّوحِ حُزْتَ فَائِدَةَ صُحْبَتِهِ وَإِلَّا كَانَتْ صُحْبَتُكَ مَيْتَةً، فَأَيُّ فَائِدَةٍ تَرْجُوهَا مِنَ المَيْتِ.

وَمِنْ أَهَمِّ أَدَبِ الصُّحْبَةِ أَنْ تُخَلِّفَ حُظُوظَكَ وَرَاءَكَ وَلَا تَكُنْ هِمَّتُكَ مَصْرُوفَةً إِلَّا لِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُشْكَرُ مَسْعَاكَ.

فَإِذَا تَخَلَّقْتَ بِذَلِكَ جَمَعْتَ بَيْنَ الشَّبَحِ وَالرُّوحِ، بَيْنَ الصُّحْبَةِ وَالأَدَبِ، فَإِذَا تَخَلَّقْتَ بِذَلِكَ فَبَادِرْ وَاسْتَغْنِمِ الحُضُورَ، وَأَخْلِصْ فِي ذَلِكَ تُرْفَعْ دَرَجَتُكَ وَتَعْلُو هِمَّتُكَ؛ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

وَاسْتَغْنِمِ الوَقْتَ وَاحْضُرْ دَائِمًا مَعَهُمْ   ***   وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرِّضَا يَخْتَصُّ مَنْ حَضَرَا

أَيْ: وَاسْتَغْنِمْ وَقْتَ صُحْبَةِ الفُقَرَاءِ وَاحْضُرْ دَائِمًا مَعَهُمْ بِقَلْبِكَ وَقَالَبِكَ، تَسْرِي إِلَيْكَ زَوَائِدُهُمْ، وَتَغْمُرُكَ فَوَائِدُهُمْ، وَيَنْصَحُ ظَاهِرَكَ بِالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِمْ، وَيُشْرِقُ بَاطِنُكَ بِالتَّحَلِّي بِأَنْوَارِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ جَالَسَ جَانَسَ، فَإِنْ جَلَسْتَ مَعَ المَحْزُونِ حَزِنْتَ، وَإِنْ جَلَسْتَ مَعَ المَسْرُورِ سُرِرْتَ، وَإِنْ جَلَسْتَ مَعَ الغَافِلِينَ سَرَتْ إِلَيْكَ الغَفْلَةُ، وَإِنْ جَلَسْتَ مَعَ الذَّاكِرِينَ انْتَبَهْتَ مِنْ غَفْلَتِكَ وَسَرَتْ إِلَيْكَ اليَقَظَةُ، فَإِنَّهُمُ القَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ، فَكَيْفَ يَشْقَى خَادِمُهُمْ وَمُحِبُّهُمْ وَأَنِيسُهُمْ؛ وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ:

لِي سَادَةٌ مِنْ عِزِّهِمْ   ***   أَقْــدَامُهُمْ فَوْقَ الجِبَاهِ

إِنْ لَـمْ أَكُـنْ مِنْهُمْ   ***   فَلِي فِي حُبِّهِمْ عِزٌّ وَجَاهُ

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الرِّضَا وَهَذَا المَقَامَ يَخُصُّ مَنْ حَضَرَ مَعَهُمْ بِالتَّأَدُّبِ، وَخَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ، وَتَحَلَّى بِالذِّلَّةِ وَالانْكِسَارِ، فَاخْرُجْ عَنْكَ إِذَا حَضَرْتَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَانْطَرِحْ وَانْكَسِرْ إِذَا حَلَلْتَ بِنَادِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَذُوقُ لَذَّةَ الحُضُورِ وَاسْتَعِنْ عَلَى ذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الصَّمْتِ تُشْرِقْ لَكَ أَنْوَارُ الفَرَحِ وَيَغْمُرْكَ السُّرُورُ؛ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

وَلَازِمِ الصَّمْتَ إِلَّا إِنْ سُئِلْتَ فَقُلْ   ***   لَا عِلْمَ عِنْدِي وَكُنْ بِالجَهْلِ مُسْتَتِرَا

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَا مَنْ أُكْرِمْتَ بِصُحْبَةِ العُلَمَاءِ العَارِفِينَ وَالأَتْقِيَاءِ الصَّالِحِينَ المُصْلِحِينَ، الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: احْذَرْ مُصَاحَبَةَ الفَاسِقِ المُصِرِّ عَلَى الكَبِيرَةِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ يَخْشَى اللهَ تَعَالَى لَمَا أَصَرَّ عَلَى الكَبِيرَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَخْشَى اللهَ تَعَالَى فَكَيْفَ تَأْمَنُهُ؟ فَصُحْبَةُ مِثْلِ هَذَا يَضُرُّ بِدِينِكَ وَصُحْبَتِكَ الصَّالِحَةِ.

اصْحَبْ مَنْ كَانَ تَقِيًّا، فَالتَّقيُّ يَخَافُ اللهَ تَعَالَى، وَإِذَا وَقَعَ في كَبِيرَةٍ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، بَلْ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ.

احْذَرْ مُصَاحَبَةَ أَهْلِ الهَوَى الَّذِينَ يَتَغَيَّرُونَ بِتَغَيُّرِ الأَحْوَالِ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾. هَذَا الصِّنْفُ حَذَّرَنَا اللهُ تعالى مِنْ طَاعَتِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾. أَمَّا أَهْلُ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ فَلَا يَتَغَيَّرُونَ بِتَغَيُّرِ الأَحَوَالِ، فَهُمْ دَائِمًا وَأَبَدًا مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي حَالَةِ شُكْرٍ وَصَبْرٍ حَتَّى يَلْقَوْنَ اللهَ تَعَالَى.

احْذَرْ مُصَاحَبَةَ أَهْلِ الفِسْقِ وَالفُجُورِ، لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ الفَاسِقِ الفَاجِرِ، وَمُشَاهَدَةَ الفِسْقِ وَالفُجُورِ تُزِيلُ مِنَ القَلْبِ كَرَاهِيَةَ الفِسْقِ وَالفُجُورِ، وَتُهَوِّنُ عَلَيْكَ فِعْلَهُ، وَكَمْ مِنْ مَعْصِيَةٍ هَانَتْ عَلَى العَبْدِ بِسَبَبِ مُصَاحَبَةِ العَاصِي؟ أَمَّا صُحْبَةُ الأَبْرَارِ فَيَرْتَقُونَ بِكَ حَالًا وَقَالًا.

أَسْأَلُكَ يَا رَبِّ أَنْ لَا تَحْرِمَنَا مُلَازَمَةَ العُلَمَاءِ العَامِلِينَ الَّذِينَ سَلِمَتْ أَلْسِنَتُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ، فَاسْتَقَامُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 21/ ذو القعدة /1446هـ، الموافق: 19/ أيار / 2025م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  وصايا لأهل السير والسلوك

15-06-2025 19 مشاهدة
10ـ من لم يجد شيخًا يربيه ويرقيه

اعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا بَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، فَمَنْ كَانَتْ بَصِيرَتُهُ نَافِذَةً لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ عُيُوبُهُ، فَإِذَا عَرَفَ الْعُيُوبَ أَمْكَنَهُ الْعِلَاجُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ ... المزيد

 15-06-2025
 
 19
11-06-2025 52 مشاهدة
9ـ الآداب هي مفتاح الباب

فَالتَّصَوُّفُ كُلُّهُ آدَابٌ، فَمَنِ الْتَزَمَ الأَدَبَ وُفِّقَ للأَفْعَالِ الصَّالِحَةِ، وَإِلَّا رُدَّ إلى الأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ، مَنِ الْتَزَمَ الأَدَبَ وُفِّقَ للصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ التي تُعَلِّمُهُ الأَدَبَ وَالأَخْلَاقَ، وَتَجْعَلُهُ ... المزيد

 11-06-2025
 
 52
09-06-2025 50 مشاهدة
8ـ الذكر منشور الولاية

فَإِنَّ أَلَذَّ شَيْءٍ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى بِقَلْبٍ حَاضِرٍ؛ وَرَدَ في بَعْضِ الآثَارِ أَنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: إِلَهِي، أَقَرِيبٌ فَأُنَاجِيَكَ؟ أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيَكَ؟ فَقَالَ: ... المزيد

 09-06-2025
 
 50
04-06-2025 31 مشاهدة
7ـ آداب الذكر

يَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَفْرِضِ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا في حَالِ العُذْرِ، غَيْرَ الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ... المزيد

 04-06-2025
 
 31
04-06-2025 42 مشاهدة
6ـ الذكر أصل كل مقام وقاعدته

الذِّكْرُ يُثْمِرُ المَقَامَاتِ كُلَّهَا مِنَ اليَقَظَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَيُثْمِرُ المَعَارِفَ وَالأَحْوَالَ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَيْلِ ثِمَارِهَا إِلَّا مِنْ شَجَرَةِ الذِّكْرِ، وَكُلَّمَا عَظُمَتْ ... المزيد

 04-06-2025
 
 42
26-05-2025 56 مشاهدة
5ـ صحبة الأولياء ترياق مجرّب

الوَاجِبُ عَلَى المُرِيدِ الصَّادِقِ أَنْ يَتَحَرَّى بِغَايَةِ جُهْدِهِ مُصَاحَبَةَ الأَخْيَارِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَجْعَلُ الشِّرِّيرَ خَيِّرًا، كَمَا أَنَّ مُصَاحَبَةَ الأَشْرَارَ قَدْ تَجْعَلُ الخَيِّرَ شِرِّيرًا. مَنْ صَحِبَ خَيِّرًا أَصَابَتْهُ ... المزيد

 26-05-2025
 
 56

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5702
المقالات 3231
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424096127
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :