941ـ خطبة عيد الأضحى 1446هـ: المغزى الحقيقي من العيد
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ.
العِيدُ السَّعِيدُ يَكُونُ بِتَرْوِيضِ أَنْفُسِنَا عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ وَإِسْدَائِهِ لِلْآخَرِينَ، وَبِصَنَائِعِ المَعْرُوفِ الَّتِي تُضْفِي عَلَى المُجْتَمَعِ التَّرَابُطَ وَالتَّآلُفَ وَالتَّآخِي، وَتَقِيهِ مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَوَائِلَ الشُّرُورِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: العِيدُ الحَقِيقِيُّ عِنْدَ المُؤْمِنِينَ حَقًّا مُنَاسَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِنَبْذِ الشَّحْنَاءِ والبَغْضَاءِ، وَالانْتِصَارِ عَلَى المَشَاعِرِ وَالأَحَاسِيسِ الَّتِي يَنْزَغُ بِهَا الشَّيْطَانُ.
فَهَلْ جَعَلْنَا العِيدَ مُنْطَلَقًا حَقِيقِيًّا فِي عَلاقَتِنَا مَعَ بَعْضِنَا مِنْ مُسْتَوَى الأُسْرَةِ خَاصَّةً إِلَى مُسْتَوَى الأُمَّةِ عَامَّةً؟ هَلْ نَتَجَاوَزُ المَظَاهِرَ والطُّقُوسَ لِيَكُونَ العِيدُ عِيدًا وَفَرْحَةً لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا بِقُلُوبٍ صَادِقَةٍ، وَنُفُوسٍ طَاهِرَةٍ؟ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾.
العِيدُ الحَقِيقِيُّ يَكُونُ بَعْدَ الطَّاعَاتِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: العِيدُ الحَقِيقِيُّ يَكُونُ بَعْدَ الطَّاعَةِ، العِيدُ الحَقِيقِيُّ يَكُونُ بِإِدْخَالِ الفَرْحَةِ إِلَى قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، العِيدُ الحَقِيقِيُّ يَكُونُ بِجَمْعِ شَمْلِ الأُمَّةِ، العِيدُ الحَقِيقِيُّ عِنْدَمَا نَكُونُ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ، العِيدُ الحَقِيقِيُّ عِنْدَمَا يَرْحَمُ بَعْضُنَا بَعْضًا، العِيدُ الحَقِيقِيُّ عِنْدَمَا يَكُونُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنَّا رَاضِيًا.
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَسَاءَلْ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَنْفُسِنَا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ العِيدِ الحَقِيقِيِّ؟
العِيدُ الحَقِيقِيُّ عِنْدَمَا نَلْتَزِمُ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللهَ فِي ذِمَّتِهِ (أَيْ: فَلَا تَغْدُرُوا بِهِ وَتَنْقُضُوا عَهْدَهُ)» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: رَابِطَةُ المُؤْمِنِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ رَابِطَةٌ قَوِيَّةٌ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
رَابِطَةٌ تَتَكَسَّرُ تَحْتَهَا شَوْكَةُ أَهْلِ الكُفْرِ وَالعُدْوَانِ، وَتَنْزَاحُ أَمَامَهَا قِوَى الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: وَصَفَ اللهُ تَعَالَى المُجْتَمَعَ الإِسْلَامِيَّ بَعْدَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
المُجْتَمَعُ الإِسْلَامِيُّ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَلْوَانِهِ وَبُلْدَانِهِ بُنْيَانٌ وَاحِدٌ، وَجَسَدٌ وَاحِدٌ، يَسْعَدُ بِسَعَادَةِ بَعْضِهِ، وَيَتَأَلَّمُ لِأَلَمِهِ وَمَرَضِهِ؛ المُجْتَمَعُ الإِسْلَامِيُّ يَجْمَعُهُمْ دِينٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الإِسْلَامُ، وَكِتَابٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَنَبِيٌّ وَاحِدٌ، هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَيِّدُ الأَنَامِ عَلَى الإِطْلَاقِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: إِنْ تَنْتَصِرْ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى نَفْسِهَا وَأَهْوَائِهَا، وَتُطَبِّقْ شَرِيعَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ مَنَاحِي حَيَاتِهَا، وَيَسْتَقِمْ أَفْرَادُهَا عَلَى دِينِ خَالِقِهَا، تَنْتَصِرْ عَلَى عَدُوِّهَا، وَتَعْلُ كَلِمَتُهَا، وَتَزْدَدْ قُوَّتُهَا.
اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنَا وَلَاتَسْتَبْدِلْنَا. آمين.
أَقُولُ هَذَا القَوْلَ وَكُلٌّ مِنَّا يَسْتَغْفِرُ اللهَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 10/ ذو الحجة /1446هـ، الموافق: 6/ حزيران / 2025م
لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد
بِالعَمَلِ الصَّالِحِ تَحْيَا القُلُوبُ، وَتَزْدَادُ نُورًا يُضِيءُ لِصَاحِبِهِ الطَّرِيقَ، لِيَسِيرَ بِهِ فِي النَّاسِ طَالِبًا مَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِتَرْكِ العَمَلِ الصَّالِحِ قَدْ يَصِلُ القَلْبُ إِلَى المَوْتِ، وَيُصْبِحُ ... المزيد
لِيَقِفْ أَدْعِيَاءُ الرَّحْمَةِ وَالإِنْسَانِيَّةِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ العَصِيبَةِ الَّتِي يَشِيبُ لَهَا الوِلْدَانُ مِنْ شِدَّةِ الظُّلْمِ وَالقَهْر؛ لِيَقِفْ كُلُّ فَرْدٍ وَكُلُّ جَمَاعَةٍ، وَكُلُّ أُمَّةٍ تَدَّعِي الرَّحْمَةَ بِرَعِيَّتِهَا، ... المزيد
الإِنْسَانُ يَعِيشُ حَيَاتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، الَّتِي هِيَ دَارُ عَمَلٍ وَلَا جَزَاءَ، وَالأُخْرَى هِيَ دَارُ الآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الجَزَاءِ وَلَا عَمَلَ. وَمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الدَّارُ بِالدُّنْيَا ... المزيد
الدُّنْيَا لِلْبَشَرِ لَيْسَتْ بِدَارِ مَقَرٍّ، وَلَا بَقَاءٍ وَلَا خُلُودٍ، وَهُمْ عَمَّا قَلِيلٍ مِنْهَا ظَاعِنُونَ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ وَعَنْهَا رَاحِلُونَ، ثُمَّ هُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ وَاقِفُونَ مُخْتَصِمُونَ وَمُحَاسَبُونَ، ... المزيد