5ـ كلمة شهر رجب لعام 1428هـ (أيها المؤمن الغيور)

5ـ كلمة شهر رجب لعام 1428هـ (أيها المؤمن الغيور)

 

إلى كل مؤمن غيور، وما من مؤمن إلا وهو غيور لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى ذلك الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يغار، والله أشدّ غيراً). أقول:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأعظم الله الغيرة في قلوبكم حتى تتعدى هذه الغيرة من محارمكم الخاصة إلى كافة النساء المسلمات المؤمنات، لأن المؤمنين كجسد واحد، كرجل واحد، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه البخاري ومسلم.

أيها الإخوة الأحبة: يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: الغَيْرة مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين اهـ.

فالأصل الأصيل في كل مؤمن أنه غيور على محارم المسلمين كما يغار على محارمه، فكما يغار المسلم على عرضه من أم وأخت وبنت وزوجة وخالة وعمة، فلا يرضى لهن ما يخدش حياءهن، بل إذا رأى أحداً يسيء إليهن غلا قلبه من الغضب كما يغلو القدر على النار، كذلك يغار على كل مؤمنة مسلمة طاهرة، لأنه يعلم بأن هذا الأمر واجب عليه، وبه كمال إيمانه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه البخاري ومسلم ، فكمال الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وكماله كذلك أن تكره لأخيك ما تكرهه لنفسك، كما جاء في الأثر.

وما من مسلم إلا وهو يعلم سبب غزوة بني قينقاع، كما رواها ابن هشام، أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.

فالأصل فيك أيها المؤمن الغيرة على محارمك ومحارم المؤمنين، أما من كانت غيرته على محارمه، دون محارم المؤمنين فليس هو بالمؤمن الكامل، بل ربما أن يكون ممن آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، وخاصة إذا كان يؤذي المؤمنين في أعراضهم. ولذلك روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع، فقال: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُفِض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتَّبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله).

قال: ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.

فالمؤمن هو الذي يحب لأعراض المسلمين ما يحب لعرضه، والمسلم الحق هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده. فكم من المسلمين من يؤذي المسلمين في أعراضهم، تذكر يا أخي أن هذه المرأة التي دخلت إلى محلك التجاري، أو إلى عيادتك، أو إلى مكتبك، أو إلى مكان عملك الوظيفي، أو إلى مدرستك، أو إلى جامعتك، هي زوجة لأخ لك في الله، أو هي ابنة لأخ لك في الله، أو هي أم لأخ لك في الله، أو هي أخت لأخ لك في الله، فهي عرضك، والإسلام حذرك من إيذاء المسلم في عرضه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ألم يقل مولانا جل في علاه: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}.

ورضي الله عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي كان يقول: اجعل كبير المسلمين عندك أباً، وصغيرهم ابناً، وأوسطهم أخاً، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه؟ وهل هناك إساءة أعظم من إيذاء المسلمين في أعراضهم.

وكان يقول يحيى بن معاذ الرازي: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثةً: إن لم تنفعه فلا تضرَّه، وإن لم تفرحهُ فلا تَغمَّهُ، وإن لم تمدحه فلا تذمه.

وكان يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأن أموت ثم أنشر، ثم أموت ثم أنشر، ثم أموت ثم أنشر، أحب إليَّ من أن أرى عورة مسلم أو يراها مني. وزوجة المسلم وابنته وأخته وأمه ومحارمه هي عورته فينبغي أن تصان، فمن صان عرض الآخرين صين عرضه، ومن انتهك أعراض المسلمين انتُهك عرضه.

فيا أيها التاجر الذي ابتلي بالتعامل مع النساء في بيع الأقمشة أو الملبوسات النسائية، أو العطورات، أو أدوات التجميل. ويا أيها الطبيب الذي ابتلي بعلاج النساء المسلمات، ويا أيها الموظف الذي ابتلي بالعمل الوظيفي مع النساء، ويا أيها الطالب في المدرسة أو الجامعة، كن حريصاً على أعراض المسلمين من أجل سلامة عرضك، واسمع وصية ذلك الرجل الذي يقول لابنه: يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً سقط فيه.

لعلك أن تسمع يا أخي يا من ابتليت بالتعامل مع النساء، ما رواه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعفَّ نساؤكم).

وما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة، شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه).

وما رواه أحمد في مسنده والبيهقي والحاكم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم).

وما رواه الطبراني عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله).

وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

ورحمة الله على سفيان الثوري الذي كان يقول لأصحابه وقد خرجوا يوم عيد: إن أول ما نبدأ به في يومنا عفة أبصارنا.

فيا أيها المؤمن: كن غيوراً على أعراض المسلمين، كن آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، وتذكر بأن لك عرضاً، فإذا ما خان أخوك العرض لا قدر الله، أو عرَّض نفسه للفتنة فلا تخن أنت، تذكر بأن الله رقيب عليك، تذكر بأن الله بصير بما تعمل، تذكر بأن الله تعالى يحصي عليك، تذكر بأن الله ليس بغافل عما تعمل. تذكر ما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

عفوا تعف نساؤكم في المحرم *** وتجنبوا ما لا يليق بمسلم

إن الزنى دين فإن أقرضته *** كان الوفا من أهل بيتك فاعلم

يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً *** سبل المودة عشت غير مكرم

لو كنت حراً من سلالة ماجد *** ما كنت هتاكاً لحرمة مسلم

من يَزْنِ يُزْنَ به ولو بجداره *** إن كنت يا هذا لبيباً فافهم

وقال محمود الوراق رحمه الله تعالى:

رأيت صلاح المرء يصلح أهله *** ويعديهم داء الفساد إذا فسد

ويشرف في الدنيا بفضل صلاحه *** ويُحفظ بعد الموت في الأهل والولد

والحمد لله رب العالمين.

 

 2007-07-15
 3757
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 1 ]

أبو البر
 2007-07-21

أشكركم يا سيدي وأرجو الله أن يشكر لكم وأن يتقبل منكم ويجعلها حجة لكم في صفحة أعمالكم الصالحة .

 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

09-04-2024 82 مشاهدة
212ـ كيف تستقبل العيد أنت؟

هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد

 09-04-2024
 
 82
13-03-2024 250 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 250
09-02-2024 500 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 500
13-01-2024 297 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 297
14-12-2023 436 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 436
16-11-2023 538 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 538

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412797259
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :