6ـ كلمة شهر شعبان (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)

6ـ كلمة شهر شعبان (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)

 

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإني أيها الإخوة الكرام أبارك لكم حلول شهر شعبان المعظم عليكم وأسأل الله العلي القدير أن يجعله شهر خير وبركة على أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يجعلنا من الغافلين عنه.

روى النسائي وهو حديث حسن، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم). اللهم لا تمنعنا خير ما عندك بسوء ما عندنا، وإن كنت لم تقبل تعبنا ونصبنا فلا تحرمنا أجر المصاب على مصيبته.

أيها الإخوة الكرام: في مقابلة تلفزيونية مع عالم من علماء الجيولوجيا وهو متخصص بالإعجاز العلمي، سأله مقدم البرنامج عن قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر) هل فيها إعجاز قرآني علمي؟

فأجاب العالم المسلم: هذه الآية لها معي قصة، فمنذ فترة كنت أحاضر في جامعة كاردييف في غرب بريطانيا وكان الحضور خليطاً من المسلمين وغير المسلمين، وكان هناك حوار حيٌّ للغاية عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وفي أثناء الحوار وقف شاب مسلم، وقال: يا سيدي هل ترى في قول الحق جل جلاله: (اقتربت الساعة وانشق القمر) لمحة من لمحات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؟

فأجبته: لا، لأن الإعجاز العلمي يفسر بالعلم، بينما معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس لها تفسير علمي، إنها خرق لنواميس وقوانين الحياة الدنيا، خذ على سبيل المثال قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) فبعد ألف وأربعمائة عام اكتشف علماء البحار أن كل بحر له خصائصه، ومكوناته، وكثافته، وملوحته، وأن مياه كل بحر لا تختلط بالبحر الآخر.

هذه الآية فيها إعجاز علمي، لأنها إشارة متقدمة جداً، لمَّا تقدم العلم فسرها، أما حادثة انشقاق القمر فهي خرق لنواميس الكون، والعلم لا يملك تفسيراً لذلك، فلا تندرج تحت الإعجاز العلمي.

وفي أثناء المحاضرة وقف شاب مسلم بريطاني عرف بنفسه، وقال: أنا داود موسى بيتكوك رئيس الحزب الإسلامي البريطاني، ثم قال: يا سيدي، هل تسمح لي بإضافة؟ قلت له: تفضل، قال: وأنا أبحث عن الأديان قبل أن أسلم أهداني أحد الطلاب المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم، فشكرته عليها، وأخذتها إلى البيت، وحينما فتحت هذه الترجمة كانت أول سورة أطلع عليها سورة القمر، وقرأت قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} فقلت: هل يعقل هذا الكلام؟ هل يمكن للقمر أن ينشق، ثم يلتحم، وأية قوة تستطيع عمل ذلك؟ فصدتني هذه الآية عن متابعة قراءة القرآن، وانشغلت بأمور الحياة، ووُضِع الكتاب في مكان متطرف، ونُسِي الموضوع.

ولكن الله عز وجل يعلم مدى إخلاصي بالبحث عن الحقيقة فأجلسني ربي أمام التلفاز البريطاني، وكان هناك حوار يدور بين معلق بريطاني وثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين، وكان هذا المذيع يعاتب هؤلاء العلماء، فقال هذا المذيع، وهو يعاتب هؤلاء العلماء على الإنفاق الشديد على رحلات الفضاء في الوقت التي تمتلئ فيه الأرض بمشكلات الجوع والفقر والمرض والتخلف: لو أن هذا المال الغزير أنفق على عمران الأرض لكان أجدى وأنفع للناس.

وجلس هؤلاء العلماء الثلاثة يدافعون عن وجهة نظرهم، ويقولون: إن هذه التقنية تطبق في نواح كثيرة من الحياة، حتى إنها تطبق في الطب والصناعة والزراعة، فهذا المال ليس مالاً ذَهَبَ هدراً، لكنه أعاننا على تطوير تقنيات متقدمة للغاية.

ومن خلال هذا الحوار جاء ذكر رحلة إنزال رجل على سطح القمر، باعتبار أنها أكثر رحلات الفضاء كلفة، حيث كلفت أكثر من مئة ألف مليون دولار، فهنا صرخ المذيع البريطاني، وقال: أي سفه هذا، مئة ألف مليون دولار كي تضعوا علمكم على سطح القمر؟

فقالوا: لا، لم يكن الهدف وضع العلم فوق سطح القمر، كنا ندرس تركيب القمر الداخل، فوجدنا حقيقة لو أنفقنا أضعاف هذا المال لإقناع الناس بها لما صدقنا أحد، فقال لهم: ما هذه الحقيقة؟ قالوا: هذا القمر انشق في يوم من الأيام، ثم التحم، فقال لهم: كيف عرفتم ذلك؟ قالوا: وجدنا حزاماً من الصخور المتحولة يقطع القمر من سطحه إلى جوفه على طول سطحه فاستشرنا علماء الأرض، وعلماء الجيولوجيا فقالوا: لا يمكن أن يكون هذا قد حدث إلا إذا كان هذا القمر قد انشق ثم التحم.

يقول داود موسى بيتكوك هذا الرجل المسلم رئيس الحزب الإسلامي البريطاني: فقفزت من الكرسي، ووقفت، وقلت: هذه معجزة حدثت لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة سنة يسخر الله لها أقوى الأمم في الأرض لإنفاق أكثر من مئة ألف مليون دولار لإثباتها للمسلمين، لا بد أن يكون هذا الدين حقاً، ثم أسلمت بحمد الله عز وجل.

وصدق الله تعالى القائل: {اقتربت الساعة وانشق القمر}.

وحادثة انشقاق القمر ثابتة بالنصوص التي وصلت إلينا بفضل الله عز وجل، فقد روى البخاري عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشهدوا).

وقد وردت قصة انشقاق القمر من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه الإمام أحمد، والشيخان، وابن جرير، وأبو نعيم، من طرق متقاربة أدخلت بعضها في بعض: اجتمع بعض أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، والنضر بن الحارث ونظراؤهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فقالوا: إن كنت صادقاً فاشقُق لنا القمر فرقتين: نصفاً على جبل أبي قُبَيْس، ونصفاً على قُعَيْقعان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فعلت تؤمنوا)؟ قالوا: نعم - وكانت ليلة بدر - فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر قد مَثّلَ نصفاً على أبي قبيس، ونصف على قعيقعان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: (اشهدوا، اشهدوا). فنظر الكفار، ثم قاموا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا، ثم مسحوا أعينهم، ثم نظروا فقالوا: سحر محمدٌ أعيننا. فقال بعضهم لبعض: لئن كان محمد سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فانظروا إلى السُّفَّار فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق. فقد كانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم أنهم قد رأوه، فيكذبونهم. فأنزل الله عز وجل: {اقتربت الساعة وانشق القمر}. كما في السيرة الشامية.

إخوتي الأحبة: يجب ألا نضيع العمر في الغفلة عن الله عز وجل، وخاصة في شهر شعبان حيث يغفل عنه كثير من الناس، فالأعمال الصالحة ترفع إلى الله تعالى، ويحصيها علينا ربنا، وصدق الله إذ يقول: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد}.

فآيات الله تعالى المقروءة – وهي القرآن – لا تتعارض مع آيات الله المنظورة في الكون، والله يقول: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}. فنحن آمنا وصدقنا ولو لم نر، لأن إخبار الله لنا عن أمر أصدق عندنا من رؤية أبصارنا لهذا الأمر. لأن أبصارنا قد تخدعنا، أما ربنا عز وجل فحاشاه أن يخدع عبده، لذلك كان يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {ألم تر} مع أنه لم ير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً لإخبار الله عز وجل عما حصل وعما سيحصل.

إخوتي الأحبة: ماذا ننتظر؟ قِطارُ العمر يسير، والكثير ينتظر تصديق القرآن والسنة من الغرب، والفرصة تفوت عليهم، فهل نسمع كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنًى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر) رواه الترمذي.

اللهم زد في إيماننا وهدانا، واشرح صدورنا، ووفقنا لاغتنام فرصة هذه الحياة على النحو الذي يرضيك عنا، ومثل هذا لأزواجنا وأصولنا وفروعنا وأحبابنا والمسلمين، آمين.

نرجوكم دعوة صالحة.

 

 2007-08-14
 4999
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 3 ]

ابو عبدالله
 2007-09-05

  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


أخ أبو عبد المهيمن والله أعلم هذه القصة تحدث عنها الدكتور زغلول النجار وهو عالم جيولوجيا ويتحدث في الإعجاز وسمعت منه هذه القصة. وهو متخصص في الربط بين الآيات والأحاديث والعلم, ربنا يوفقه فقد هدى الله على يديه الكثيرين ممن دخلوا الإسلام.

هاني محمد غثوان المصطفى
 2007-08-28

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفر حظنا من شعبان ومن ليلة النصف منه ويجعلنا من أسعد خلقه بتجليه وجوده على أهليه. وأحسن تهيئتنا لرمضان في عفو وعافية ورضوان ...؟

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى

جزاكم الله تعالى خيراً .. هاني من قطر .الدعاء سيدي

أبو عبد المهيمن
 2007-08-19

 


بسم الله والصلاة على سيدنا رسول الله وآله ومن والاه:


كلمة شائقة وماتعة، حبذا لو ذكر اسم صاحب المقابلة والقناة، مع خالص التحية وزاكي السلام لفضيلة الشيخ.

 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

13-03-2024 135 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 135
09-02-2024 444 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 444
13-01-2024 279 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 279
14-12-2023 386 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 386
16-11-2023 500 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 500
16-09-2023 527 مشاهدة
205ـ كيف لا نحب الحبيب صلى الله عليه وسلم!

مَا أَجْمَلَ شَهْرَ الرَّبِيعِ الذي وُلِدَ فِيهِ الحَبِيبُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟! حَيْثُ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُذَكِّرُنَا بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الذي فِيهِ تَتَفَتَّحُ الأَزْهَارُ، وَتُغَرِّدُ ... المزيد

 16-09-2023
 
 527

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411968818
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :