12ـ مشكلات وحلول: إشكالية حول زواج النبي    من السيدة عائشة

12ـ مشكلات وحلول: إشكالية حول زواج النبي    من السيدة عائشة

 

السؤال: فضيلة الشيخ أحمد، أنا رجل مقيم في بريطانيا، وكنت جالساً مع بعض الأصدقاء لي هناك، ونحن نتحدث عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال لي رجل نصراني: كيف يتزوج نبيكم محمد صلى الله عليه مسلم من فتاة لم يتجاوز عمرها تسع سنوات، وهو قد تجاوز من العمر الثالثة والخمسين؟ فقال له صديق لي مسلم: يا أخي هذا الكلام غير صحيح، وهو افتراء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فرسول الله لم يتزوج السيدة عائشة رضي الله عنها وهي طفلة صغيرة، بل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي سيدة قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها، وهذا ما قرره العلماء الثقات. فما رأيكم في ذلك؟ وأي القولين أصح هل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة لم تتجاوز تسع سنوات، أم تزوجها وهي سيدة تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أخي الكريم هذه المسألة ليست جديدة على مسامعنا، بل هي قديمة، حيث حاول المستشرقون وأعداء هذه الأمة أن ينالوا من شخصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطعنوا في كمالاته فلم يجدوا سبيلاً إلى ذلك فحاولوا أن يطعنوا في شخصيته صلى الله عليه وسلم عندما عدَّد نساءه، وعندما فوجئوا بأن هذا أولاً ليس بغريب على الناس في مجتمعه وما كان أحد ينقل ذلك فسكتوا، هذا إلى جانب الحكم الكثيرة من زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه.

وحاولوا كذلك جاهدين أن يطعنوا في شخصيته صلى الله عليه وسلم عندما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة وهي صغيرة، وقالوا: هذا زواج لا يتفق مع الفطرة الإنسانية السليمة، بل هو زواج كان من آثار مرض جنسي يتمثل في توجه الشهوة إلى الصغيرات. {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً}.

أخي الكريم: الحقيقة مرة ولكن لا بد من قولها، لأن قول الحق أحب إلينا من أن نعيش في أوهام الكتاب اليوم على قسمين:

الأول: أخذ أفكار المستشرقين وأعداء هذه الأمة وتبناها، وأخذ يكتب باسم الإسلام والمسلمين ولكن بأفكار المستشرقين، اعتمد أقوالهم وجعلها نبراساً له، لأنه مبهور بحضارة غربية فكل ما صدَّروه حقٌّ عنده، تبنَّاه وصار معتقداً له، وبدأ يكتب عن الإسلام بمادة خامية استوردها من المستشرقين. وهذا لا حديث لنا معه الآن.

الثاني: أخذ يكتب عن الإسلام مدافعاً عنه، وذلك بنفي كل ما طعن به المستشرقون زعماً منه أن هذا إن بقي يضر بالإسلام وبالنبي الله صلى الله عليه وسلم، وإذا نفاه من أصله وكذبه انتهى الأمر ورضي أعداء هذه الأمة، وتركوا الطعن في الإسلام، وربما ظن بأن هؤلاء سيدخلون في دين الله أفواجاً، ونسي هذا قول الله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير}. وهذا من أكبر المصائب في يومنا هذا وإلى الله المشتكى.

اعلم أخي الكريم:

أولاً: ديننا وشريعتنا وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تؤخذ بالرأي، بل تؤخذ عن طريق النقل بالنص الثابت، والنقل الصحيح هو الحاكم على الرأي، وليس الرأي هو الحاكم على النقل، ولذلك ذُمَّ الرأي ذمّاً شديداً إذا تعارض مع النص أو أبطله. وهل ضلَّ من ضلَّ من الفِرق الضالة إلا بإعمال آرائهم وتركهم للنصوص الصحيحة الثابتة؟ ورضي الله عن من قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره اهـ. فنحن نقف مع النقل، ثم نُعمل العقل في فهم النقل، ونقف مع قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله}. إذا عجزت أمام فهم النقل التجئ إلى الله تعالى حتى يعلمك الله تعالى.

ثانياً: أين تكمن الغرابة في نكاح المرأة الصغيرة التي لم تحض بعد؟ ألم يقل مولانا جلَّ جلاله في سورة الطلاق: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً}.

فقد حدد الله تعالى عِدَد أصناف الثلاثة من النساء وهنَّ:

1ـ المرأة الكبيرة: {واللائي يئسن من المحيض}. يئست من الحيض.

2ـ المرأة الصغيرة التي لم تحض بعد: {واللائي لم يحضن}.

3ـ المرأة الحامل: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}.

فالله تعالى حدد عدَّة المرأة الصغيرة التي لم تحض بعد طلاقها من زوجها بثلاثة أشهر، وهل يكون الطلاق إلا بعد الزواج؟ وهل تكون العدة إلا بعد الدخول؟ فأين تكمن المشكلة؟ الله تعالى يُحِلّ، والبعض يحاول أن ينفي لماذا هذا العبث؟

ألم يقل مولانا جل شأنه: {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا}. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في تفسير هذه الآية عندما سألها ابن أختها عروة بن الزبير فقالت: (هي اليتيمة في حِجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهنَّ من النساء. قالت عائشة: ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} قالت: فبين الله في هذه الآية: أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنّتها بإكمال الصداق، فإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء. قال: فكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها، إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها). رواه البخاري.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يتم بعد احتلام) رواه أبو داود. فالله تعالى أباح نكاح اليتيمة التي لم تحتلم بعد.

فأين الغرابة في نكاح من لم تحتلم بعد؟ الله يشرع والبعض يستغرب! هذا أمر غريب. والزواج من الصغيرة التي لم تحض بعد كان مشهوراً ومتعارفاً عليه، والدليل على ذلك ما شرعه الله تعالى في عدة المطلقة المدخول بها قبل سن البلوغ، وقد فعل ذلك بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم من غير نكير. فلم يكن الزواج من الصغيرة من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو تشريع عام، فالزواج المبكر موافق للفطرة الإنسانية، ولو لم يكن كذلك لما شرعه الله تعالى.

لكن الغرب يرفض الزواج المبكر لأنه اكتفى بالانحراف الخلقي والسلوكي، وينكر علينا أشد الإنكار في الزواج المبكر، ولكنه لا ينكر إذا ارتكبت لا قدر الله في مجتمعاتنا الفاحشة وانتشرت الرذيلة.

ثالثاً: أما قصة زواج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة، حيث تم العقد عليها وكان عمرها ست سنوات، وتم البناء بها وهي بنت تسع سنين، وهو أمر مشهور بلغ حدَّ التواتر، حيث ثبت في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل وثبت في الصحاح الست، وغيرها من كتب السنة. حتى صار مشهوراً عند القاصي والداني، ولا نعلم فيه خلافاً بين المحدثين والفقهاء.

1ـ ولادتها كانت في الإسلام، تقول رضي الله عنها: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه البخاري. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وكان مولدها في الإسلام قبل الهجرة بثمان سنين أو نحوها، وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ولها نحو ثمانية عشر عاماً. ولا يُعلم خلاف بين الحفاظ في أنها ولدت في الإسلام، وأنها لا تعقل أبويها إلا وهما مسلمان.

2ـ أما تحديد سنها عند العقد والبناء، فهو كما رواه البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تزوجني ـ أي عقد عليها ـ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج، فوعكت فتمرق شعري فوفى جميمة، فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين). وهو بلفظ قريب منه عند مسلم.

وروى مسلم أيضاً عن هشام بن عروة عن أبيه عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين).

وروى أبو داود أيضاً عن السيدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت سبع ـ قال سليمان: أو ست ـ ودخل بي وأنا بنت تسع).

وروى النسائي أيضاً عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع سنين، ودخل علي لتسع سنين).

وفي رواية عند النسائي: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست، ودخل علي وأنا بنت تسع سنين، وكنت ألعب بالبنات).

فالروايات كثيرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين، حتى رواها ابن سعد في طبقاته من خمسة عشر طريقاً.

ويقول العلامة ابن كثير في البداية والنهاية: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ست سنين، وبنى بها وهي ابنة تسع، ما لا خلاف فيه بين الناس، وقد ثبت في الصحاح وغيرها اهـ.

ويقول ابن حزم رحمه الله في المحلى: الحجة في إجازة إنكاح الأب ابنته الصغيرة البكر؛ إنكاح أبي بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين، وهذا أمر مشهور غنينا عن إيراد الإسناد فيه اهـ.

وبناء على ما تقدم:

1ـ الأحكام تؤخذ عن طريق النقل، والنقل الصحيح هو الحاكم على العقل، ولا تؤخذ الأحكام عن طريق العقل بحيث يصبح العقل حاكماً على النقل.

2ـ ثبت عن طريق التواتر بأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي بنت ست سنوات، وبنى بها رضي الله عنها وهي بنت تسع سنوات، وهذا هو الذي قرره العلماء الثقات.

3ـ وأما ما عُزي إلى بعض العلماء الثقات بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج من السيدة عائشة رضي الله عنها وهي في الخامسة والعشرين، فإن صحَّ العزو فإني أقول: لكل جواد كبوة، وكل منا يَرد ويُرَد عليه، ويؤخذ من قوله ويترك، كما قال سيدنا مالك رحمه الله تعالى. هذا، والله تعالى أعلم.

 

 2007-09-14
 3021
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 

التعليقات [ 5 ]

محمد الدبك
 2007-10-25

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سيدي الشيخ كل عام وأنتم بكل خير, ونفع الله بكم المسلمين آمين.

كل الشكر على هذا الرد العلمي الذي لم يشطط في التأويل ولم يختلق المبررات من زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها, وأسأل الله لكم السداد في القول والعمل.

أخوكم في الله تعالى: (محب الصالحين).

محمد الشهابي
 2007-10-25

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أطال الله في عمرك مع الصحة والعافية, وجزاك الله عنا كل خير, ونفعنا الله بعلمك وحشرنا الله واياكم تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ولا تنسني من دعوة صالحة.

محمد وأخوه براء الشهابي.

حسين عمر الخلف
 2007-09-22

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شكراً لكم سيدي الشيخ أحمد وأسأل الله لكم دوام الخير والفائدة والنفع العام للمسلمين ودوام الصحة والعافية بفضله آمين

الشيخ أحمد النعسان
 2007-09-22

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
أريد منك يا أخي الدعاء لا الشكر, لأن القيام بالواجب من العبد نحو سيده ومولاه مطلوب, ولا يشكر عليه.

علاء الكل
 2007-09-21

السلام عليكم

ونشكر شيخنا على الرد على هذا الموضوع, وأقول له: حياك الله, وشكراًً.

 

مواضيع اخرى ضمن  مشكلات و حلول

04-07-2013 22643 مشاهدة
56ـ مشكلات وحلول: الترك ليس حجة في التحريم

فالفَتوى فَرضٌ على الكِفايَةِ، ولم تَكُنِ الفَتوى فَرضَ عَينٍ، لأنَّها تَقتَضي تَحصِيلَ عُلومٍ جَمَّةٍ، فَلَو كُلِّفَها كُلُّ وَاحِدٍ لأَفضَى إلى تَعطيلِ أَعمالِ النَّاسِ ومَصالِحِهِم، لانصِرافِهِم إلى تَحصِيلِ عُلومٍ بِخُصوصِهَا. ... المزيد

 04-07-2013
 
 22643
04-07-2013 24142 مشاهدة
55ـ مشكلات وحلول: هل تسقط صلاة الجمعة عمن أكل الثوم أو البصل؟

هل تسقط صلاة الجمعة عمن أكل الثوم أو البصل؟ أم تجب عليه ويكون آثماً بإيذائه للمسلمين بالرائحة الكريهة؟ ... المزيد

 04-07-2013
 
 24142
08-03-2012 67509 مشاهدة
54ـ مشكلات وحلول: اطلاع كل من الزوجين على هاتف الآخر

سؤال: هل هناك حرج شرعي من الاطلاع على هاتف الزوج الخاص به، حيث جعل له رقماً سرياً، وبإمكاني اختراق هذا الرقم؟ ... المزيد

 08-03-2012
 
 67509
08-03-2012 65332 مشاهدة
53ـ مشكلات وحلول: اشترطت على زوجها أن لا يتزوَّج عليها

سؤال: هل يجوز للمرأة أن تشترط على زوجها أثناء العقد أن لا يتزوَّج عليها؟ ... المزيد

 08-03-2012
 
 65332
21-01-2012 60311 مشاهدة
52ـ مشكلات وحلول: حكم عمل المرأة سكرتيرة

سؤال: هل يجوز للمرأة المسلمة أن تعمل كسكرتيرة بسبب حاجتها المادية؟ ... المزيد

 21-01-2012
 
 60311
21-01-2012 57475 مشاهدة
51ـ مشكلات وحلول: الحديث مع المرأة الأجنبية

سؤال: ما حكم الشرع في حديث الرجل مع المرأة الأجنبية من غير ضرورة؟ ... المزيد

 21-01-2012
 
 57475

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411947721
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :