8ـ العهد الثامن: الإنصاف(1)

8ـ العهد الثامن: الإنصاف(1)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

فالعهد الذي نأخذه على أنفسنا في هذا اليوم هو إنصاف الآخرين من أنفسنا، ومسألة الإنصاف لا يستطيعها إلا صاحب الإيمان، وكلما عظم إيمانك كلما أنصفت الآخرين من نفسك، وكلما قلَّ الإيمان كلما ظلم الإنسان الآخرين، ولم ينصف أحداً من نفسه. فإذا عظم الإيمان رأيت أخطاءك ونسيت حسناتك، ورأيت حسنات الآخرين ونسيت أخطاءهم، وإذا قلَّ الإيمان رأيت حسناتك ونسيت سيئاتك، ورأيت سيئات الآخرين ونسيت حسناتهم، وهذا من الشقاء، فالإنصاف إنما يتحقق فيك كلما عظم إيمانك بيوم القيامة، ولذلك يقول الله جل وعلا: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} أي لا يوقعنكم في الجرم، لأن الله قال: {إنا من المجرمين منتقمون} أتريد لا قدر الله أن يكون المنتقم للمظلوم ربك عز وجل؟ في حياتنا الدنيا إن ظلمتُ فأتيت إلى المظلوم فاستحللته في الدنيا، فهذا أكرم؟ أم في يوم القيامة الذي سينتقم فيه لهذا المظلوم هو الله عز وجل؟ لذلك أنصف الآخرين من نفسك، وإنصافك الآخرين من نفسك أن ترى حسناتهم وأن تغض بصرك عن سيئاتهم مع النصح لهم.

أيها الإخوة: ربنا جل في علاه كيف يعاملنا؟ حسناتك يا بن آدم ينشرها الله أكثر أم سيئاتك؟ الحسنات ينشرها ربنا جل وعلا، والسيئات يدفنها، لذلك لو قلت لك: ما هي حسنات فلان؟ لذكرت لي مئة حسنة من حسناته، وإذا قلت لك: عدد لي سيئاته، تعدد اثنتين أو ثلاثة أو أربع لا أكثر من ذلك. أما الحسنات فينشرها ربنا جل وعلا. مثال على ذلك: رجل يذهب لأداء العمرة فيعود وقد علم جميع أهل البلد بذلك، فهذه الحسنات ينشرها ربنا سبحانه وتعالى، وأما السيئات فيسترها سبحانه وتعالى.

لذلك فالإنصاف أن تنشر حسنات إخوانك، وأن تدفن سيئاتهم، وهذا ما علمنا إياه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة في ساعة الغضب، أنا أقبل منك في ساعة الرضا أن تنشر حسناتك وتدفن سيئاتهم، وإذا عظم الإيمان تنشر الحسنات وتدفن السيئات في ساعة الغضب، قال تعالى: {والكاظمين الغيظ}.

لذلك أنصف الآخرين من نفسك، وانظر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة عندما دعا ربنا عز وجل فقال: اللهم عمِّ الأخبار عن قريش فلا يرونا إلا بغتة. وإذا بواحد من أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدراً، وهو سيدنا حاطب بن أبي بلتعة، وهو رجل مغمور، فأراد أن يتخذ لنفسه يداً عند قريش، مع يقينه الجازم بأن الله تعالى ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم، فخط كتاباً إلى قريش، وأرسله مع ظعينة لتوصله إلى قريش بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيئ جيشاً لفتح مكة. ـ وحتى نعلم أيها الإخوة بأن عقيدتنا أنه لا عصمة إلا للأنبياء، وغيرهم ليس له عصمة أياً كان ـ.

رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا: اللهم عمِّ الأخبار عن قريش، لذلك فلن يصل النبأ، فجاء الوحي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا علياً والزبير والمقداد بن الأسود فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها. قال سيدنا علي رضي الله عنه: فانطلقنا تعادى بنا خيلُنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجنَّ الكتاب أو لنلقينَّ الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولننظر إلى الإنصاف، وكيف نرى الحسنات قبل السيئات، وإذا رأيت الحسنات فمن خلال رؤية الحسنات حاسب على السيئات، لأن ربنا عز وجل عندنا يحاسبنا يوم القيامة فسيحاسبنا كما قال سبحانه: {وأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه فأمه هاويه} فربنا عز وجل ينظر أولاً إلى الحسنات، فإن فاقت حسناتك سيئاتك جعل الله عز وجل حياتك في عيشة راضية. لذلك أنصف الآخرين، وانظر إلى الحسنات أولاً، ثم من خلال نظرتك في الحسنات انظر إلى السيئات، فإذا رأيت السيئات قليلة بجنب الحسنات، فحقق السعادة لهذا الإنسان وانصحه في تقصيره في هذا الجانب.

بالله عليكم أيها الإخوة، من منا يفعل هذا مع زوجته؟ أن ينظر إلى حسنات زوجته ويعاتبها على سيئة فعلتها من خلال رؤية الحسنات؟ النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال عن النساء: (ينكرن العشير، إن أحسنت إليها الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) رواه البخاري. فالمرأة ترى السيئات ولا ترى الحسنات، وأما أنت أيها الرجل فهل ترى الحسنات وتعاتبها على السيئات من خلال الحسنات؟ الجواب: لا، إذاً لا تعتب على زوجتك بأنها تنكر العشير، لأنك أنت تنكر العشير.

رسول الله صلى الله عليه وسلم أحضر حاطب بن أبي بلتعة، وفي ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناته، لا سيئاته، ومن أعظم الحسنات أنه شهد بدراً، وأهل بدر إن لم يكن عندهم حسنات إلا هذه الحسنة كفتهم عند الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراً ولا ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد صدقكم. قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. رواه البخاري.

سيدنا عمر رضي الله عنه عملاق الإسلام، الجبل الراسخ في دين الله، عندما رأى هذا الموقف اعتبره خيانة، وكان ذلك غيرة وانتقاماً لشرع الله عز وجل، وليس غيرة وانتقاماً لحظ نفسه، فغيرةً على دين الله نسي الحسنات وما ذكر إلا السيئات. لذلك ينبغي عليك تتعامل مع زوجتك وأولادك على أن تكون الغيرة والغضب لله، لا لعرض من أعراض الدنيا، فلعرض تافه من أعراض الدنيا تقيم الدنيا وتقعدها؟ مع أنك لو نظرت إلى حسناتها لا تعد ولا تحصى؟ تحافظ على شرفك وعرضك وتصونك، وتحافظ على مالك، وتحسن تربية أولادك، وتقرأ كتاب الله، وتذكر الله، وإذا أخطأت خطأً دنيوياً نسيت كل الحسنات؟ هذا يدل على أن غضبك لنفسك وليس غيرة على شرع الله. أما الغضب لله فكموقف سيدنا عمر رضي الله عنه.

ولنتأمل موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أراد أن يصلح ذكر للطرف الآخر حسنات الطرف الأول، لذلك من أراد أن يتدخل في الإصلاح فعليه مباشرة أن يذكر لكل طرف حسنات الطرف الآخر، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يُذكِّر سيدنا عمر رضي الله عنه بحسنات سيدنا حاطب، فذكَّره بأنه قد شهد بدراً.

أيها الإخوة: مسألة الإنصاف حُرمناها في هذه الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا من رحم ربي عز وجل، يغضب أحدنا من زوجته أو من أخيه أو ولده أو شريكه أو عامله أو جاره، وهكذا، فلا يتبادر إلى ذهنه إلا السيئات، فإذا حصل خلاف بين زوجين، وإذا بالزوجة مباشرة تتذكر كل الخلافات التي كانت بينها وبينه، وإذا بالأمور تتأزم، ولكن تذكري إحسانه لكي تتقبلي منه تلك الإساءة في هذه الساعة. وأنت بالمقابل إن رأيت سيئة لزوجتك أو ابنك فلا تتذكر سيئاتها مباشرة لتعاقبها على تلك السيئات في هذا اليوم.

لذلك فالإنصاف في ساعة الغضب أن تتذكر الحسنات، وتدفن السيئات، وأن تجعل الحسنات شفيعاً لتلك السيئة التي حصلت، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) رواه مسلم.

أيها الإخوة: هل نقطع على أنفسنا عهداً أن ننصف الآخرين من أنفسنا، وأهم الناس الذين ينبغي أن تنصفهم من نفسك زوجتك، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المنصفين. والحمد لله رب العالمين.

 

 2007-10-06
 5881
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 331 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 331
26-05-2022 695 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 695
26-05-2022 519 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 519
29-04-2022 388 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 388
29-04-2022 822 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 822
29-04-2022 940 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 940

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413373016
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :