180ـ كرب الدنيا لا تسمى كُربًا

كلمة شهر صفر الخير 1443

180ـ كرب الدنيا لا تسمى كُربًا

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: شَرُّ مَا مُنِيَتْ بِهِ النُّفُوسُ يَأْسٌ يُمِيتُ القُلُوبَ، وَقُنُوطٌ تُظْلِمُ بِهِ الدُّنْيَا، وَتَتَحَطَّمُ مَعَهُ الآمَالُ، لَقَدْ نَسِيَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ طَبِيعَةَ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، هَذِهِ الدُّنْيَا تُضْحِكُ وَتُبْكِي، وَتَجْمَعُ وَتُشَتِّتُ، فِيهَا رَخَاءٌ وَشِدَّةٌ، وَسَرَّاءُ وَضَرَّاءُ، وَصِحَّةٌ وَمَرَضٌ، وَغِنًى وَفَقْرٌ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾.

نَسِيَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا دَارُ غُرُورٍ لِمَنِ اغْتَرَّ بِهَا، وَهِيَ عِبْرَةٌ لِمَنِ اعْتَبَرَ بِهَا، وَهِيَ دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَمَيْدَانُ عَمَلٍ لِمَنْ عَمِلَ فِيهَا، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا تَتَنَوَّعُ فِيهَا الابْتِلَاءَاتُ وَأَلْوَانُ الفِتَنِ، وَيُبْتَلَى أَهْلُهَا بِالمُتَضَادَّاتِ وَالمُتَبَايِنَاتِ، قَالَ تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.

المَخْرَجُ مِنَ الأَزَمَاتِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا اسْتَحْكَمَتِ الأَزَمَاتُ، وَتَرَادَفَتِ الضَّوَائِقُ، فَلَا مَخْرَجَ مِنْهَا إِلَّا بِالإِيمَانِ بِاللهِ تعالى، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ الصَّبْرِ، ذَلِكَ هُوَ النُّورُ العَاصِمُ مِنَ التَّخَبُّطِ، وَهُوَ الدِّرعُ الوَاقِي مِنَ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ.

إِنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ تعالى، وَعَرَفَ حَقِيقَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى احْتِمَالِ المَكَارِهِ، وَوَاجَهَ الأَعْبَاءَ مَهْمَا ثَقُلَتْ، وَحَسَّنَ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّلَ فِيهِ جَمِيعَ العَوَاقِبِ، وَكَرِيمَ العَوَائِدِ، كُلُّ ذَلِكَ بِقَلْبٍ لَا تَشُوبُهُ رِيبَةٌ، وَنَفْسٍ لَا تُزَعْزِعُهَا كُرْبَةٌ، مُسْتَيْقِنًا أَنَّ الصَّفْوَ لَا بُدَّ آتِيهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَثْقَالُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا يُطِيقُ حَمْلَهَا المَهَازِيلُ الضِّعَافُ، وَلَا يَنْهَضُ بِأَعْبَائِهَا إِلَّا العَمَالِقَةُ الصَّبَّارُونَ أَصْحَابُ الهِمَمِ العَالِيَةِ الذينَ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.

وروى الترمذي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».

وروى الإمام أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَكَانَ لِجَدِّهِ صُحْبَةٌ، أَنَّهُ خَرَجَ زَائِرًا لِرَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَبَلَغَهُ شَكَاتُهُ قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَتَيْتُكَ زَائِرًا عَائِدًا وَمُبَشِّرًا.

قَالَ: كَيْفَ جَمَعْتَ هَذَا كُلَّهُ؟ قَالَ: خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ زِيَارَتَكَ فَبَلَغَتْنِي شَكَاتُكَ، فَكَانَتْ عِيَادَةً وَأُبَشِّرُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنَ اللهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ، ابْتَلَاهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَقِيقَةٌ يَجِبُ أَنْ لَا تَغِيبَ عَنَّا في سَاعَاتِ الابْتِلَاءِ، أَلَا وَهِيَ كَمْ مِنْ مِحْنَةٍ في طَيِّهَا مِنَحٌ وَرَحَمَاتٌ ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

هَذَا هُوَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَضْرِبُ المَثَلَ الأَعْلَى في الرِّضَا عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يَلْقَاهُ صَبْرًا جَمِيلًا، مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ وَقُوَّةٍ في الأَمَلِ، قَالَ لِأَبْنَائِهِ في المَرَّةِ الأُولَى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.

ثُمَّ قَالَ في المَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَمَلًا، وَبِرَبِّهِ أَكْثَرُ تَعَلُّقًا: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

كُلُّ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ الكَبِيرِ صَاحِبِ القَلْبِ الوَجِيعِ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.

وَبِيقِينِهِ هَذَا وَقُوَّةِ رَجَائِهِ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِاللهِ تعالى أَمَرَ أَوْلَادَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾. المُؤْمِنُ الوَاثِقُ بِاللهِ تعالى لَا يَفْقِدُ أَمَلَهُ وَرَجَاءَهُ مَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الابْتِلَاءَاتُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ الجَزُوعُ لَهُ مِنْ سُوءِ الطَّبْعِ مَا يُنَفِّرُهُ مِنَ الصَّبْرِ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ مَسَالِكَ الفَرَجِ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ، أَو حَلَّتْ بِهِ كَارِثَةٌ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ».

وروى الترمذي أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُرَبُ الدُّنْيَا لَا تُسَمَّى كُرَبًا، لِأَنَّهَا تَكْفِيرٌ لِسَيِّئَاتِنَا وَرَفْعٌ في دَرَجَاتِنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

هَلُمُّوا لِأَنْ نَنْظُرَ إلى الدُّنْيَا بِبَصِيرَتِنَا لَا بِبَصَرِنَا، فَمَنْ نَظَرَ إلى الدُّنْيَا بِعَيْنِ البَصِيرَةِ أَيْقَنَ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا هِيَ بِعَيْنِهَا حَلَاوَةٌ في الآخِرَةِ، وَأَنَّ حَلَاوَةَ الدُّنْيَا المَمْزُوجَةَ بِالحَرَامِ هِيَ بِعَيْنِهَا مَرَارَةٌ في الآخِرَةِ، وَلَأَنْ يَنْتَقِلَ العَبْدُ مِنْ مَرَارَةٍ مُنْقَطِعَةٍ إلى حَلَاوَةٍ دَائِمَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنَ العَكْسِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ».

اللَّهُمَّ زِدْ في إِيمَانِنَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ فِيمَا قَدَّرْتَ وَقَضَيْتَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 1/ صفر الخير /1443هـ، الموافق: 8/ أيلول / 2021م