8ـ الذكر منشور الولاية

8ـ الذكر منشور الولاية

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَلَذَّ شَيْءٍ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى بِقَلْبٍ حَاضِرٍ؛ وَرَدَ في بَعْضِ الآثَارِ أَنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: إِلَهِي، أَقَرِيبٌ فَأُنَاجِيَكَ؟ أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيَكَ؟

فَقَالَ: أَنَا جَلِيسٌ لِمَنْ ذَكَرَنِي، وَقَرِيبٌ مِمَّنْ أَنِسَ بِي، أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ.

وَأَهْلُ الذِّكْرِ هُمْ أَهْلُ نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الاطْمِئْنَانِ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

وَهُمْ أَهْلُ مَعِيَّةٍ مَعَ مَذْكُورِهِمْ، فَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ تَعَالَى.

يَقُولُ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ الغَوْثُ: إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا آنَسَهُ بِذِكْرِهِ، وَوَفَّقَهُ لِشُكْرِهِ.

وَيَقُولُ: مَنْ أَنِسَ بِالخَلْقِ اسْتَوْحَشَ مِنَ الحَقِّ.

وَيَقُولُ: بِالغَفْلَةِ تُنَالُ الشَّهْوَةُ.

وَمِنْ آدَابِ الذِّكْرِ أَنْ يُغْمِضَ الذَّاكِرُ عَيْنَيْهِ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ في تَنْوِيرِ القَلْبِ.

وَمِنْ آدَابِ الذِّكْرِ أَنْ لَا يَنْشَغِلَ بِالمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّهَا قَوَاطِعُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى يَطْمِئَنَّ قَلْبُهُ.

وَمِنْ آدَابِ الذِّكْرِ، كَمَا سَمِعْنَا عَنْ شَيْخِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: أَنْ لَا يَشْرَبَ المَاءَ بَعْدَ الذِّكْرِ، لِأَنَّ للذِّكْرِ حَرَارَةً تَجْلِبُ الأَنْوَارَ، وَأَقَلُّ مُدَّةٍ للشُّرْبِ بَعْدَ الذِّكْرِ عَشْرُ دَقَائِقَ.

ثُمَّ بَعْدَ الذِّكْرِ يُنْصِتُ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ لِكَلَامِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَأَنَّهُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِهِ.

وَيَقُولُ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نُورَانِيَّةُ الأَذْكَارِ مُحْرِقَةٌ لِأَوْصَافِ العَبْدِ، وَمُثِيرَةٌ لِحَرَارَةِ طَبْعِهِ بِانْحِرَافِ النَّفْسِ عَنْ طَبْعِهَا. اهـ.

نُورُ الذِّكْرِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الفَلَاحِ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾.

فَعَلَيْكَ يَا أَيُّهَا المُرِيدُ الصَّادِقُ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَفِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَفِي الرَّاحَةِ وَالتَّعَبِ، فِي المَلَأِ وَفِي الخَلْوَةِ، بَلْ وَفِي سَائِرِ أَحْوَالِكَ، وَيَكْفِيكَ عِزًّا وَشَرَفًا وَقَدْرًا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾. فَإِنْ كُنْتَ لَهُ ذَاكِرًا كَانَ لَكَ ذَاكِرًا، فَأَعْظِمْ بِهَذِهِ الكَرَامَةِ؛ اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.

فَالذِّكْرُ مَنْشُورُ الوِلَايَةِ، فَمَنْ أُعْطِيَ الذِّكْرَ أُعْطِيَ المَنْشُورَ، فَعَلَى المُرِيدِ الصَّادِقِ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الذِّكْرِ، وَيُكْثِرَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ مَدَارِجُ السَّالِكِ للوُصُولِ إلى اللهِ تَعَالَى.

وَالمُرِيدُ الصَّادِقُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَاتِبَ نَفْسَهُ عِتَابًا شَدِيدًا، لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ خَيْرًا عَظِيمًا، وَرُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا في تَخَلُّفِ إِخْوَانِهِ كَذَلِكَ.

لَو قِيلَ لِلْمُتَخَلِّفِ: إِذَا حَضَرْتَ أَخَذْتَ كَذَا مِنَ المَالِ، لَمَا رَأَيْتَهُ مُتَخَلِّفًا.

ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَأَلَذُّ مَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى، لِذَلِكَ أَهْلُ الجَنَّةِ يُلْهَمُونَ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ؛ اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ. آمين.

وَمِنْ آدَابِ الذِّكْرِ تَغْمِيضُ العَيْنَيْنِ أَثْنَاءَ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَنْوِيرِ القَلْبِ، وَتَرَقُّبٌ لِأَنْ يَأْتِيَكَ وَارِدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، عَنْ طَرِيقِ المَلَكِ؛ وَقَدْ يَأْتِيكَ الوَارِدُ مِثْلَ لَـمْحِ البَصَرِ، وَيَكُونُ هَذَا الوَارِدُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِكَ، وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ، وَبِذَلكَ الوَارِدِ تُصْبِحُ عَلَى رَبِّكَ وَارِدًا؛ وَفي الحِكَمِ: إِنَّمَا أَوْرَدَ عَلَيْكَ الوَارِدَ لِتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ وَارِدًا.

احْبِسْ نَفَسَكَ بَعْدَ الذِّكْرِ، وَكُنْ خَاشِعًا لَا تَتَحَرَّكُ مِنْكَ شَعْرَةٌ، وَلْتُصْغِ لِكَلَامِ رَبِّكَ بَعْدَ الذِّكْرِ.

وَيَقُولُ سَيِّدِي الشَّيْخُ الإِمَامُ الهُمَامُ أَحْمَد فَتْحُ اللهِ جَامِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لَوْ عَرَفَ النَّاسُ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ وَقِيمَتَهُ مَا تَرَكُوهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَيَكُونُ مَثَلُهُمْ مَثَلَ الجَائِعِ الَّذِي إِذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَكَلَ الحَشِيشَ لِيَسُدَّ جُوعَهُ؛ وَالذِّكْرُ يُوقِفُ صَاحِبَهُ عَلَى الحَقَائِقِ التَّالِيَةِ:

1ـ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ يَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَعَلَى خُبْثِهَا وَمَكْرِهَا، عِنْدَ ذَلِكَ يُخَالِفُهَا وَيُعَادِيهَا.

2ـ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ يَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ، فَيُخَالِفُهُ وَيُعَادِيهِ.

3ـ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ يَتَهَيَّأُ القَلْبُ لِتَلَقِّي الأَنْوَارِ وَعِنْدَهَا يَنْفَسِحُ وَيَنْشَرِحُ وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِخَالِقِهِ.

4ـ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ تَتَّصِلُ الرُّوحُ بِخَالِقِهَا وَتَشْتَاقُ إِلَى مَوْطِنِهَا الأَصْلِيِّ، وَهَذِهِ هِيَ السَّعَادَةُ الأَبَدِيَّةُ.

ثُمَّ يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: حُضُورُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي طَرِيقَتِنَا لَهُ ثَلَاثُ فَوَائِدَ:

أَوَّلًا: الضَّعِيفُ يَقْوَى.

ثَانِيًا: القَوِيُّ يَرْقَى.

ثَالِثًا: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شُكُوكٌ وَإِشْكَالَاتٌ فَإِنَّهَا تَزُولُ بِحُضُورِ تِلْكَ المَجَالِسِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ هَذِهِ المَجِالِسِ بِدُونِ عُذْرٍ، وَلَوْ كَانَ قَوِيًّا فِي سُلُوكِهِ، وَحُضُورُ الضَّعِيفِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَصَاحِبِ الإِشْكَالَاتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى؛ إِنَّهَا مَجَالِسٌ يُبَاهِي اللهُ بِهَا المَلَائِكَةَ الكِرَامَ.

ثُمَّ يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الإِكْثَارُ مِنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ تُغَيِّرُ الإِنْسَانَ وَتَجْعَلُهُ ذَهَبًا صِرْفًا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ كَثْرَةِ الذِّكْرِ مِنَ الحُضُورِ التَّامِّ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنَ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ وُجِدَ لَقُلْتُهُ لَكُمْ.

وَبِالذِّكْرِ يَتَرَقَّى الإِنْسَانُ وَيُخَفِّفُ طَبِيعَتَهُ البَشَرِيَّةَ، وَمَعْرِفَةُ اللهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ إِلَّا بِتَخْفِيفِ الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ، فَإِذَا حَصَلَتِ المَعْرِفَةُ وَالمَعِيَّةُ مَعَ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ البَشَرِيَّةَ لَا تَطْلُبُ إِلَّا بِمِقْدَارِ الحَاجَةِ.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ ذِكْرِكَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 13/ ذو الحجة /1446هـ، الموافق: 9/ حزيران / 2025م