943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

مقدمة الخطبة:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.

وَقَد وَصَفَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾. فَلَا إِيمَانَ إِلَّا بِرَحْمَةٍ، وَإِذَا نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنَ القُلُوبِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى ـ فَمَنْ يَسْمَعُ وَيُصْغِي لِشِكَايَةِ المَظْلُومِينَ؟

إِذَا نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنَ القُلُوبِ فَمَنْ يَسْمَعُ وَيُصْغِي لِشِكَايَةِ اليَتَامَى وَالأَرَامِلِ وَالمَسَاكِينِ وَالبَائِسِينَ وَأَصْحَابِ الحَاجَةِ؟

إِذَا نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنَ القُلُوبِ فَمَنْ يَسْمَعُ وَيُصْغِي لِأَنِينِ المُتَأَوِّهِينَ وَالمَفْجُوعِينَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: بِالرَّحْمَةِ يُرْحَمُ الإِنْسَانُ، وَبِهَا يُكْرِمُ اللهُ تَعَالَى المَنَّانُ عَبْدَهُ الرَّحِيمَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، فَيُفَرِّجُ بِهَا كَرْبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَيَجْعَلُ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ.

بِالرَّحْمَةِ يُكْسَى العَارِي، بِالرَّحْمَةِ يُطْعَمُ الجَائِعُ، بِالرَّحْمَةِ يُمْسَحُ عَلَى رَأْسِ اليَتِيمِ، بِالرَّحْمَةِ تُفَرَّجُ كُرُبَاتُ المَكْرُوبِينَ وَالمُعْسِرِينَ، بِالرَّحْمَةِ تُفْتَحُ لَكَ أَبْوَابُ الرَّحَمَاتِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَتُيَسَّرُ لَكَ أَسْبَابُ الخَيْرَاتِ، بِالرَّحْمَةِ تُحْقَنُ الدِّمَاءُ، بِالرَّحْمَةِ يُحَافَظُ عَلَى الأَعْرَاضِ، بِالرَّحْمَةِ تُصَانُ الأَمْوَالُ، بِالرَّحْمَةِ يَكُونُ العَطَاءُ، بِالرَّحْمَةِ يَكُونُ العَبْدُ مِنْ تُجَّارِ الآخِرَةِ لَا مِنْ تُجَّارِ الدُّنْيَا.

«لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى سَعَادَةَ عَبْدِهِ مَلَأَ قَلْبَهُ بِالرَّحْمَةِ، حَتَّى يَعْظُمَ خَيْرُهُ، وَيُضَاعَفَ أَجْرُهُ، وَتُكَفَّرَ خَطِيئَتُهُ، وَتُرْفَعَ دَرَجَتُهُ؛ وَأَسْعَدُ النَّاسِ عَلَى الإِطْلَاقِ هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. ثُمَّ مَنْ سَارَ عَلَى سَيْرِهِ، وَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: وَلَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ».

وَرَوَى الإمام أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ الْـمَصْدُوقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ».

هَلْ تَشْعُرُ بِآلَامِ الآخَرِينَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد رَبَّى الإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ عَلَى الشُّعُورِ بِآلَامِ وَمِحَنِ الآخَرِينَ، رَبَّاهُم عَلَى الشُّعُورِ بِهُمُومِ وَأَحْزَانِ الآخَرِينَ، كَأَنَّهُم جَسَدٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْـمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيْنَ مَنْ يَشْعُرُ بِشُعُورِ إِخْوَانِهِ؟ أَيْنَ مَنْ يَشْعُرُ بِهُمُومِ الَمهْمُومِينَ، وَبِحُزْنِ المَحْزُونِينَ؟ أَيْنَ مَنْ يَشْعُرُ بِشُعُورِ اليَتَامَى وَالأَرَامِلِ وَالمَسَاكِينِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُم بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَهَذَا مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالرَّاحِمُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنَ اللهِ تَعَالَى الرَّحْمَةَ.

أُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُم بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَهَذَا مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالرَّاحِمُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنَ اللهِ تَعَالَى الرَّحْمَةَ.

يَا عِبَادَ اللهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَعَلَى كُلِّ المُسْتَوَيَاتِ، وَمِنْ جَمِيعِ شَرَائِحِ المُجْتَمَعِ: اشْعُرُوا بِشُعُورِ أَصْحَابِ الحَاجَاتِ، مِنْ فُقَرَاءَ وَمَسَاكِينَ وَأَرَامِلَ وَيَتَامَى، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ رَحِمَ رُحِمَ، وَمَنْ أَغَاثَ أُغِيثَ، وَصَاحِبُ المَعْرُوفِ لَا يَقَعُ، وَإِذَا وَقَعَ وَجَدَ مُتَّكَأً، فَارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْتَنِمُوا نِعْمَةَ الصِّحَّةِ وَالمَالِ، بِإِغَاثَةِ المَلْهُوفِينَ وَأَصْحَابِ الحَاجَةِ، مِنْ أَرَامِلَ وَيَتَامَى وَمَسَاكِينَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ. آمين.

أَقُولُ هَذَا القَوْلَ وَكُلٌّ مِنَّا يَسْتَغْفِرُ اللهَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 17/ ذو الحجة /1446هـ، الموافق: 13/ حزيران / 2025م