طباعة |
![]() |
10ـ من لم يجد شيخًا يربيه ويرقيه | |
10ـ من لم يجد شيخًا يربيه ويرقيه الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ الإِمَامُ حُجَّةُ الإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الإِحْيَاءِ: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا بَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، فَمَنْ كَانَتْ بَصِيرَتُهُ نَافِذَةً لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ عُيُوبُهُ، فَإِذَا عَرَفَ الْعُيُوبَ أَمْكَنَهُ الْعِلَاجُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ جَاهِلُونَ بِعُيُوبِ أَنْفُسِهِمْ؛ يَرَى أَحَدُهُمُ الْقَذَى فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَلَا يَرَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِ نَفْسِهِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ عُيُوبَ نَفْسِهِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ طُرُقٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْ شَيْخٍ بَصِيرٍ بِعُيُوبِ النَّفْسِ مُطَّلِعٍ عَلَى خَفَايَا الآفَاتِ، وَيُحَكِّمَهُ فِي نَفْسِهِ، وَيَتَّبِعَ إِشَارَتَهُ فِي مُجَاهَدَتِهِ؛ وَهَذَا شَأْنُ المُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ وَالتِّلْمِيذِ مَعَ أُسْتَاذِهِ، فَيُعَرِّفُهُ أُسْتَاذُهُ وَشَيْخُهُ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَيُعَرِّفُهُ طَرِيقَ عِلَاجِهِ، وَهَذَا قَدْ عَزَّ فِي الزَّمَانِ وُجُودُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَطْلُبَ صَدِيقًا صَدُوقًا بَصِيرًا مُتَدَيِّنًا فَيُنَصِّبَهُ رَقِيبًا عَلَى نَفْسِهِ لِيُلَاحِظَ أَحْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ، فَمَا كَرِهَ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ وَعُيُوبِهِ البَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ يُنَبِّهُهُ عَلَيْهِ، فَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ الأَكْيَاسُ وَالأَكَابِرُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ. كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: رَحِمَ اللهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي. وَكَانَ يَسْأَلُ سَلْمَانَ عَنْ عُيُوبِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي مِمَّا تَكْرَهُهُ، فَاسْتَعْفَى. فَأَلَحَّ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ جَمَعْتَ بَيْنَ إِدَامَيْنِ عَلَى مَائِدَةٍ، وَأَنَّ لَكَ حُلَّتَيْنِ حُلَّةً بِالنَّهَارِ وَحُلَّةً بِاللَّيْلِ. قَالَ: وَهَلْ بَلَغَكَ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أَمَّا هَذَانِ فَقَدْ كُفِيتَهُمَا. وَكَانَ يَسْأَلُ حُذَيْفَةَ وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَهَلْ تَرَى عَلَيَّ شَيْئًا مِنْ آثَارِ النِّفَاقِ؛ فَهُوَ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِ هَكَذَا كَانَتْ تُهْمَتُهُ لِنَفْسِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَوْفَرَ عَقْلًا وَأَعْلَى مَنْصِبًا كَانَ أَقَلَّ إِعْجَابًا وَأَعْظَمَ اتِّهَامًا لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنَّ هَذَا أَيْضًا قَدْ عَزَّ فَقَلَّ فِي الأَصْدِقَاءِ مَنْ يَتْرُكُ المُدَاهَنَةَ فَيُخْبِرُ بِالعَيْبِ أَوْ يَتْرُكُ الحَسَدَ فَلَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الوَاجِبِ فَلَا تَخْلُو فِي أَصْدِقَائِكَ عَنْ حَسُودٍ أَوْ صَاحِبِ غَرَضٍ يَرَى مَا لَيْسَ بِعَيْبٍ عَيْبًا، أَوْ عَنْ مُدَاهِنٍ يُخْفِي عَنْكَ بَعْضَ عُيُوبِكَ. وَلِهَذَا كَانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ قَدِ اعْتَزَلَ النَّاسَ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا تُخَالِطُ النَّاسَ؟ فَقَالَ: وَمَاذَا أَصْنَعُ بِأَقْوَامٍ يُخْفُونَ عَنِّي عُيُوبِي. فَكَانَتْ شَهْوَةُ ذَوِي الدِّينِ أَنْ يَتَنَبَّهُوا لِعُيُوبِهِمْ بِتَنْبِيهِ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ فِي أَمْثَالِنَا إِلَى أَنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَيْنَا مَنْ يَنْصَحُنَا وَيُعَرِّفُنَا عُيُوبَنَا، وَيَكَادُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُفْصِحًا عَنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ السَّيِّئَةَ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ لَدَّاغَةٌ، فَلَوْ نَبَّهَنَا مُنَبِّهٌ عَلَى أَنَّ تَحْتَ ثَوْبِنَا عَقْرَبًا لَتَقَلَّدْنَا مِنْهُ مِنَّةً وَفَرِحْنَا بِهِ وَاشْتَغَلْنَا بِإِزَالَةِ العَقْرَبِ وَإِبْعَادِهَا وَقَتْلِهَا، وَإِنَّمَا نِكَايَتُهَا عَلَى البَدَنِ وَيَدُومُ أَلَمُهَا يَوْمًا فَمَا دُونَهُ، وَنِكَايَةُ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ عَلَى صَمِيمِ الْقَلْبِ أَخْشَى أَنْ تَدُومَ بَعْدَ المَوْتِ أَبَدًا وَآلَافًا مِنَ السِّنِينِ، ثُمَّ إِنَّا لَا نَفْرَحُ بِمَنْ يُنَبِّهُنَا عَلَيْهَا وَلَا نَشْتَغِلُ بِإِزَالَتِهَا، بَلْ نَشْتَغِلُ بِمُقَابَلَةِ النَّاصِحِ بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ، فَنَقُولُ لَهُ: وَأَنْتَ أَيْضًا تَصْنَعُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَتَشْغَلُنَا الْعَدَاوَةُ مَعَهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِنُصْحِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَسَاوَةِ الْقَلْبِ الَّتِي أَثْمَرَتْهَا كَثْرَةُ الذُّنُوبِ؛ وَأَصْلُ كُلِّ ذَلِكَ ضَعْفُ الإِيمَانِ. فَنَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُلْهِمَنَا رُشْدَنَا وَيُبَصِّرَنَا بِعُيُوبِنَا وَيَشْغَلَنَا بِمُدَاوَاتِهَا وَيُوَفِّقَنَا لِلْقِيَامِ بِشُكْرِ مَنْ يُطْلِعُنَا عَلَى مَسَاوِينَا بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَفِيدَ مَعْرِفَةَ عُيُوبِ نَفْسِهِ مِنْ أَلْسِنَةِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَ، وَلَعَلَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِعَدُوٍّ مُشَاحِنٍ يُذَكِّرُهُ عُيُوبَهُ أَكْثَرُ مِنِ انْتِفَاعِهِ بِصَدِيقٍ مُدَاهِنٍ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَمْدَحُهُ وَيُخْفِي عَنْهُ عُيُوبَهُ، إِلَّا أَنَّ الطَّبْعَ مَجْبُولٌ عَلَى تَكْذِيبِ الْعَدُوِّ وَحَمْلِ مَا يَقُولُهُ عَلَى الْحَسَدِ، وَلَكِنَّ الْبَصِيرَ لَا يَخْلُو عَنِ الِانْتِفَاعِ بِقَوْلِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ مَسَاوِيَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَنْتَشِرَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ. الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ، فَكُلُّ مَا رَآهُ مَذْمُومًا فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ فَلْيُطَالِبْ نَفْسَهُ بِهِ وَيَنْسُبْهَا إِلَيْهِ. اهـ. وَيَقُولُ سَيِّدِي الإِمَامُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا، سَيِّدِي مُحَمَّدُ الهَاشِمِيُّ التِّلْمِسَانِيُّ الجَزَائِرِيُّ أَصْلًا، المَالِكِيُّ مَذْهَبًا، الأَشْعَرِيُّ عَقِيدَةً، الشَّاذِلِيُّ طَرِيقَةً وَمَشْرَبًا، الدِّمَشْقِيُّ مَسْكَنًا ـ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ الطَّاهِرَةَ ـ: طُرُقُ الوُصُولِ إِلَى اللهِ تَعَالَى: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ عُيُوبًا فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا بِنَفْسِهِ لِشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا فَلَا بُدَّ مِمَّنْ يُعِينُهُ وَيُعَالِجُهُ: أَوَّلًا: وَلَيْسَ إِلَّا الشَّيْخُ فَهُوَ كَالطَّبِيبِ يُظْهِرُ العُيُوبَ وَيُعَالِجُهَا. ثَانِيًا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ نَاصِحٌ فَأَخٌ صَالِحٌ يَجْعَلُهُ رَقِيبًا عَلَى أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَلْيَتَعَرَّفْ عُيُوبَ نَفْسِهِ. ثَالِثًا: مِنْ أَعْدَائِهِ؛ وَلِأَبِي حَيَّانَ: عُـدَاتِي لَـهُمْ فَضْلٌ عَـلَيَّ وَمِنَّةٌ *** فَـلَا أَبْعَدَ الرَّحْمَنُ عَنِّي الأَعَادِيَا هُمُ بَحَثُوا عَنْ زَلَّتِي فَاجْتَنَبْتُهَا *** وَهُمْ نَافَسُونِي فَاكْتَسَبْتُ المَعَالِيَا رَابِعًا: أَوْ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ إِذْ يَطَّلِعُ بِذَلِكَ عَلَى مَسَاوِيهِمْ فَيَتَنَزَّهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ عَنْهَا، فَإِنَّ المُؤْمِنَ مِرْآةُ المُؤْمِنِ. خَامِسًا: أَوْ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِ القَوْمِ كَكُتُبِ المُحَاسِبِيِّ وَالغَزَالِيِّ وَالشَّعْرَانِي؛ قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ زِكْرِي فِي شَرْحِ الحِكَمِ: وَهَذَا الطَّرِيقُ اليَوْمَ أَنْفَعُ وَأَنْفَذُ، لِأَنَّ النُّفُوسَ اليَوْمَ لَا تَنْقَادُ لِلنُّصَحَاءِ وَلَا تَقْبَلُ نُصْحَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ حُضُورُ مَجَالِسِ العِلْمِ مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَتَصَوُّفٍ، فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ خَمْسُ طُرُقٍ. سَادِسًا: وَبَقِيَتْ طَرِيقَةٌ سَادِسَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْخًا يُرَبِّيهِ وَيُرَقِّيهِ فَلْيُلَازِمِ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ تُرَبِّيهِ وَتُرَقِّيهِ وَتُهَذِّبُهُ وَتُوصِلُهُ؛ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ زَرُّوقُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي العَبَّاسِ الحَضْرَمِيِّ، وَالشَّيْخُ السَّنُوسِيُّ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ التَّصَوُّفِ. قُلْتُ: وَالمُوَفَّقُ ذُو الهِمَّةِ العَلِيَّةِ مِنَ المُرِيدِينَ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِلْعَمَلِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الطُّرُقِ السِّتَّةِ عَلَى التَّرْتِيبِ. اللَّهُمَّ دُلَّنَا عَلَى مَنْ يَدُلُّنَا عَلَيْكَ، وَأَوْصِلْنَا بِالَّذِي يُوصِلُنَا إِلَيْكَ. آمين. ** ** ** تاريخ الكلمة: الاثنين: 20/ ذو الحجة /1446هـ، الموافق: 16/ حزيران / 2025م |
|
جميع الحقوق محفوظة © 2025 https://www.naasan.net/print.ph/ |