طباعة |
![]() |
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل | |
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل مقدمة الخطبة: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَيَا عِبَادَ اللهِ: لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ فِي الغَرْبِ، وَفِي كُلِّ شَهْرٍ يُهَلُّ القَمَرُ صَغِيرًا، ثُمَّ يَنْمُو شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يُصْبِحَ بَدْرًا مُسْتَدِيرًا، ثُمَّ يَبْدَأُ بِالنُّقْصَانِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الاضْمِحْلَالِ. نَرَى المَطَرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً تَزْهُو، ثُمَّ مَا تَلْبَثُ أَنْ تُصْبِحَ هَشِيمًا يَابِسًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ؛ نَرَى الزَّهْرَةَ فَوَّاحَةَ الشَّذَى، فَمَا تَلْبَثُ حَتَّى تَذْبُلَ وَتَمُوتَ، نَرَى أَنْفُسَنَا قَد تَحَقَّقَ فِينَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾. وَتَرَانَا مَعَ هَذَا لَا نَعْتَبِرُ. يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا حَالُ الدُّنْيَا، مِنَ المُحَالِ دَوَامُ الحَالِ؛ وَلَكِنَّ النَّاسَ غَرِقُوا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَضَيَّعُوا الآخِرَةَ؛ غَرِقُوا في طَلَبِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ، مَعَ الغُرُورِ وَطُولِ الأَمَلِ، وَنَشْوَةِ الفَرَحِ وَالانْشِغَالِ بِالأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ، وَهُمْ على يَقِينٍ بِأَنَّ هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا لَا رَاحَةَ فِيهَا وَلَا اطْمِئْنَانَ، وَلَا ثَبَاتَ وَلَا اسْتِقْرَارَ؛ حَوَادِثُهَا كَثِيرَةٌ، وَالنَّاسُ في غَفْلَةٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾. دُنْيَا غَرَّارَةٌ: يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَهْمٌ فِي وَهْمٍ، طُلُوعٌ وَأُفُولٌ، نَرَى دُوَلًا تُبْنَى، وَأُخْرى تَزُولُ، وَنَرَى مَمَالِكَ تُشَادُ، وَأُخْرَى تُبَادُ، وَنَرَى مُدُنًا تُعَمَّرُ، وَأُخْرَى تُدَمَّرُ، وَسُبْحَانَ الَّذِي يُغَيِّرُ وَلَا يَتَغَيَّرُ. دُنْيَا خَدَّاعَةٌ غَرَّارَةٌ، كَيْفَ خُدِعَ النَّاسُ بِهَا، وَمَا هِيَ إِلَّا كَغَمْضَةِ عَيْنٍ، أَوْ لَمْحَةِ بَصَرٍ؟ الدُّنْيَا سَرَابٌ خَادِعٌ، وَبَرِيقٌ لَامِعٌ، وَلَكِنَّهَا سَيْفٌ قَاطِعٌ؛ كَمْ أَذَاقَتْ بُؤْسًا، وَكَمْ جَرَّعَتْ غُصَصًا، كَمْ أَحْزَنَتْ فَرِحًا، وَأَبْكَتْ مَرِحًا، وَكَدَّرَتْ صَفْوًا؟ سُرُورُهَا مَمْزُوجٌ بِالأَحْزَانِ، وَفَقْرُهَا كَدَرٌ، سَاحِرَةٌ، خَدَّاعَةٌ، مَكَّارَةٌ؛ كَمْ مِنْ عَزِيزٍ صَارَ فِيهَا ذَليلًا، وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ صَارَ فِيهَا عَزِيزًا، وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ صَارَ فِيهَا فَقِيرًا، وَكَمْ مِنْ فَقِيرٍ صَارَ فِيهَا غَنِيًّا، وَكَمْ مِنْ حَاكِمٍ صَارَ فِيهَا مَحْكُومًا، وَكَمْ مِنْ مَحْكُومٍ صَارَ فِيهَا حَاكِمًا. لَا نَرَى فِيهَا إِلَّا رَاحِلًا إِثْرَ رَاحِلٍ، وَهَالِكًا خَلْفَ هَالِكٍ، وَمَيْتًا بَعْدَ مَيْتٍ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ، وَأَنْفَاسٌ مَحْدُودَةٌ، وَآجَالٌ مَضْرُوبَةٌ، وَأَعْمَالٌ مَحْسُوبَةٌ، ثُمَّ وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ العِزَّةِ جَلَّ جَلَالُهُ. العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِمَّنْ أَعْرَضَ عَنِ اللهِ تَعَالَى: يَا عِبَادَ اللهِ: العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِمَّنْ أَعْرَضَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَنَسِيَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾. آيَاتٌ تَهُزُّ الغَافِلَ عَنِ اللهِ هَزًّا لَو وَقَفَ مَعَ نَفْسِهِ بِصِدْقٍ لَحْظَةً وَاحِدَةً، الحِسَابُ قَدِ اقْتَرَبَ وَهُوَ في غَفْلَةٍ، آيَاتُ اللهِ تَعَالَى تُتْلَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مُعْرِضٌ، لَا يَأْتَمِرُ بِأَمْرٍ، وَلَا يَنْتَهِي عَنْ نَهْيٍ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ. يَا عِبَادَ اللهِ: أَلَيْسَ عَجِيبًا أَنْ يُعْرِضَ الإِنْسَانُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الذي خَلَقَهُ فَسَوَّاهُ فَعَدَلَهُ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ، وَهُوَ يَقُولُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾؟! يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَعْلَمْ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ نِهَايَةَ المَطَافِ، وَأَنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ، وَأَنَّ غَمْسَةً يُغْمَسُهَا العَبْدُ الصَّالِحُ فِي الجَنَّةِ تُنْسِيهِ كُلَّ شَقَاءٍ وَبُؤْسٍ مَرَّ بِهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ؛ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ». نَتِيجَةُ الإِعْرَاضِ عَنِ اللهِ تَعَالَى طَامَّةٌ كُبْرَى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فِي الدُّنْيَا حَيَاةُ شَقَاءٍ وَضَنْكٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾. وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ فَغَمْسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ تُنْسِيهِ جَمِيعَ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا. خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ: يَا عِبَادَ اللهِ: تَقَلُّبَاتُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاضِحَةٌ وُضُوحَ الشَّمْسِ في رَابِعَةِ النَّهَارِ، فَالكُلُّ إلى زَوَالٍ، وَالسَّعِيدُ هُوَ المُوَفَّقُ للطَّاعَاتِ، وَالَّذِي سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ. يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ فَارَقَ المَوْتُ ذَا عِزَّةٍ لِعِزَّتِهِ، وَذَا كَرَامَةٍ لِكَرَامَتِهِ، وَذَا سُلْطَانٍ لِسُلْطَانِهِ، وَذَا قُوَّةٍ لِقُوَّتِهِ؟ وَاللهِ مَا نَجَا وَلَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنَ المَوْتِ، الكُلُّ سَيَفْنَى، فَلَا إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾. فَيَا مَنْ يَغْتَرُّ بِالنِّعَمِ، وَيَغْتَرُّ بِحِلْمِ اللهِ وَسَتْرِهِ، وَيَا مَنْ صَرَفَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ وَوَقْتَهُ للدُّنْيَا فَعَاثَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا، وَيَا مَنْ أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا غَايَتَهُ، المَوْتُ آتِيكَ لَا مَحَالَةَ، وَحِسَابُكَ قَرِيبٌ ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾. اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا، وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا. آمين. أَقُولُ هَذَا القَوْلَ وَكُلٌّ مِنَّا يَسْتَغْفِرُ اللهَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ. ** ** ** تاريخ الخطبة: الجمعة: 24/ ذو الحجة /1446هـ، الموافق: 20/ حزيران / 2025م |
|
جميع الحقوق محفوظة © 2025 https://www.naasan.net/print.ph/ |