السؤال :
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى في سُورَةِ النُّورِ: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. كَيْفَ يَكُونُ الأَكْلُ مِنْ هَذِهِ البُيُوتِ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 10992
 2021-03-02

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ وَاضِحَةٌ في بَيَانِ التَّعَاوُنِ في الأُسْرَةِ في المَالِ، وَمَا تُوجِبُهُ النَّفَقَاتُ، وَكَأَنَّ مَالَ الأُسْرَةِ شَرِكَةٌ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّهَا شَرِكَةٌ يَفْرِضُهَا التَّعَاوُنُ، وَسَدُّ حَاجَةِ المُحْتَاجِ، بِحَيْثُ يُعْطِي الغَنِيُّ القَادِرُ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ مَا يَسُدُّ حَاجَةَ الفَقِيرِ العَاجِزِ، وَكَأَنَّهُ يَسُدُّ حَاجَةَ نَفْسِهِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ القَرَابَةُ وَالمَوَدَّةُ هِيَ الرَّابِطَةَ بَيْنَ النَّاسِ لَا النُّظُمَ التي تَسْلُبُ الغَنِيَّ مِلْكِيَّتَهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ، إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» رواه الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلَا يَطْمَعِ الفَقِيرُ في مَالٍ لَمْ يَكْسِبْهُ، فَيَكُونُ أَخْذُهُ إِيَّاهُ اغْتِصَابًا.

وَهَذِهِ الآيَةُ تُقَرِّرُ أَمْرَيْنِ، هُمَا مَا يُؤْخَذُ بِسَبَبِ القَرَابَةِ مِنْ نَفَقَةٍ، وَمَا يَكُونُ إِبَاحَةً مِنْ ذِي مَالٍ كَصَدِيقٍ، أَو رَجُلٍ فَاضِلٍ أَعْطَاهُ مَفَاتِحَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَوَّلُهُمَا: نَفَقَةُ القَرِيبِ، وَالثَّانِي: الأَخْذُ مِنْ مَالٍ قَدْ أُبِيحَ لَهُ.

وَشَرْطُ الأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنِ الكَسْبِ؛ وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَتْ بِذِكْرِ مَا يُومِئُ عَنِ العَجْزِ، وَالفَقْرِ، وَقَدْ كَانَ الأَمْرُ بِالأَخْذِ لَا جُنَاحَ فِيهِ وَلَا إِثْمَ إِشَارَةً إلى أَنَّ الإِعْطَاءَ مَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ، وَتَبَادلٌ لَهُمَا بَيْنَ المُعْطِي وَالآخِذِ، وَنَفْيُ الجُنَاحِ فِيهِ إِشَارَةٌ إلى الاحْتِيَاجِ، بَلِ الاضْطِرَارِ.

قَالَ تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأَعْرَج حَرَجٌ وَلَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ﴾. أَيْ ضِيقٌ أَو إِثْمٌ، وَهَذَا فَرِيقُ الفُقَرَاءِ العَاجِزِينَ الذينَ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ مَعَ الفَقْرِ العَجْزُ عَنِ الكَسْبِ.

ثُمَّ قَالَ تعالى: ﴿وَلَا عَلَى أَنفسِكُمْ أَن تَأكُلُوا مِنْ بُيوتِكمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾. وَلَمْ يَذْكُرْ في هَذَا العَجْزَ، بَلْ ذَكَرَ مُطْلَقًا عَنِ العَجْزِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العَجْزَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالنِّسْبَةِ لِأَنْفُسِكُمْ، وَالجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ شَرْطٌ بِالنِّسْبَةِ للجَمِيعِ، إِلَّا مَنْ يَعْتَبِرُ مَالَهُ هُوَ مَالُهُ كَالأَبِ وَوَلَدِهِ وَالأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» رواه الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

﴿أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ ذِكْرُ البُيُوتِ مُضَافَةً إلى مَنْ يَأْخُذُ النَّفَقَةَ، فِيهِ إِشَارَةٌ إلى تَشَابُهِ بَيْتِ طَالِبِ النَّفَقَةِ وَالمَطْلُوبِ مِنْهُ، فَهُمَا كَبَيْتٍ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ للمُسْتَحِقِّ للنَّفَقَةِ، إِذْ هُوَ كَبَيْتِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَرَابَةٍ أَوْجَبَتْ هَذَا التَّعَاوُنَ.

﴿أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ﴾ وَيُلَاحَظُ هُنَا مَلْحُوظَتَانِ: أُولَاهُمَا: أَنَّ ﴿أَوْ﴾ لَيْسَتْ للتَّخْيِيرِ المُجَرَّدِ، إِنَّمَا هِيَ تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ الأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ، فَالأَوَّلُ الآبَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالأُمَّهَاتُ بِأَنْ كَانَ الآبَاءُ عَاجِزِينَ، وَهَكَذَا يَتَوَالَى الوُجُوبُ الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الأَقَارِبَ لُوحِظَ أَنَّهُمْ أَقَارِبُ ذَوُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةُ، وَبِذَلِكَ اشْتَرَطَ الحَنَفِيَّةُ لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى القَرِيبِ أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَعَدُّوا المِيرَاثَ مُرَجِّحًا وَلَمْ يَعُدُّوهُ شَرْطًا أَسَاسِيًّا، بِحَيْثُ لَو كَانَ قَرِيبَانِ أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَوَارِثٌ، يُرَجَّحُ عَلَى الآخَرِ إِذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَقَطْ، وَإِذَا كَانَ وَارِثًا كَابْنِ العَمِّ، وَبِنْتِ الأَخِ فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الوَارِثِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ذَا رَحِمٍ.

وَالحَنَابِلَةُ جَعَلُوا المِيرَاثَ أَسَاسَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾. وَلِأَنَّ الغُنْمَ بِالغُرْمِ، فَإِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِيرَاثَهُ إِذَا مَاتَ، فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ إِذَا احْتَاجَ، وَكَانَ عَاجِزًا.

هَذِهِ هِيَ النَّفَقَةُ بَيْنَ الأَقَارِبِ، بَقِيَ بَيَانُ الآخِذِ مِنَ المَالِ الذي يُبَاحُ للعَاجِزِ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَالَيْنِ:

الأُولَى: ﴿مَا مَلَكْتم مَّفَاتِحَهُ﴾ أَيْ بِتَمْكِينٍ مِنَ المَالِكِ، فَإِعْطَاؤُهُ المَفَاتِيحَ دَلِيلٌ عَلَى الإِبَاحَةِ.

الثَّانِيَةُ: الصَّدِيقُ، فَهُوَ يَأْخُذُ نَفَقَةً مِنْ مَالِ صَدِيقِهِ.

وَإِنَّ الأَخْذَ في هَاتَيْنِ الحَالَتَيْنِ لَا يَكُونُ بِإِلْزَامٍ قَضَائِيٍّ، إِنَّمَا يَكُونُ بِتَبَرُّعٍ شَخْصِيٍّ مِنَ المَالِكِ ذِي الصِّلَةِ الوَثِيقَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ نَائِبًا عَنْهُ في إِدَارَةِ أَمْوَالِهِ، أَمْ كَانَ صَدِيقًا بَيْنَهُمَا خِلْطَةٌ تَجْعَلُ المَحَبَّةُ بَيْنَهُمَا مَالَهُمَا مُشْتَرَكًا.

وَقَدْ قَالَ تعالى في تَأْكِيدِ مَعْنَى التَّعَاوُنِ، وَشَرِكَةِ الأُسْرَةِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ أَيْ تَأْكُلُوا مُجْتَمِعِينَ، أَو أَشْتَاتًا ـ جَمْعُ شَتٍّ وَهُوَ التَّفَرُّقُ ـ أَيْ تَأْكُلُوا جَمَاعَاتٍ أَو فُرَادَى.

وَإِنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ الدُّخُولِ في بَيْتِ مَنْ تَكُونُ النَّفَقَةُ مِنْهُ، وَالاسْتِئْذَانُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ، وَلِذَا قَالَ تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ فَالسَّلَامُ هُنَا سَلَامُ اسْتِئْذَانٍ.

وَقَالَ: ﴿عَلَى أَنفسِكَمْ﴾ أَيْ إِنَّ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُمْ أَنْتُمْ وَأَنْتُمْ هُمْ.

﴿تَحِيَّةً﴾ مَصْدَرٌ، أَيْ يُحَيِّي بِهَذَا السَّلَامِ.

﴿تَحِيَّةً مِّن عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةَ﴾. وَكَانَتْ ﴿مِّنْ عِندِ اللهِ﴾ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهَا، وَلِأَنَّهَا يَحُفُّهَا رِضَا اللهِ وَبَرَكَتُهُ، وَطِيبُهُ.

﴿كذَلِكَ يُبَيِّن اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تعْقِلُونَ﴾ أَيْ كَهَذَا البَيَانِ الوَاضِحِ المُبِينِ المُرْشِدِ، بَيَّنَ اللهُ تعالى لَكُمُ الآيَاتِ المَتْلُوَّةَ، أَيْ يُؤْتِيكُمْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً هَادِيَةً مُرْشِدَةً.

﴿لَعَلَّكُمْ تعْقِلُونَ﴾ أَيْ رَجَاءَ أَنْ تَعْقِلُوا وَتُدْرِكُوا مَا فِيهِ خَيْرُكُمْ وَصَلَاحُ حَالِكُمْ، وَقِيَامُ جَمْعِكُمْ، وَالرَّجَاءُ مِنَ العَبْدِ، أَيْ إِنَّ اللهَ تعالى قَدَّمَ لَكُمْ مَا يُرْجَى بِهِ صَلَاحُ أُمُورِكُمْ، وَاجْتِمَاعُكُمْ عَلَى الحَقِّ وَالهِدَايَةِ وَالتَّعَاوُنِ. هذا، والله تعالى أعلم.