السؤال :
أُرِيدُ سَلَامَةَ قَلْبِي، فَأَحْبَبْتُ العُزْلَةَ، فَمَا هِيَ آدَابُهَا؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 10003
 2019-10-30

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أولاً: روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرَاً مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ».

وَقَالُوا: إِنَّ الْمُخَالَطَةَ فِيهَا اكْتِسَابُ الْفَوَائِدِ، وَشُهُودُ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ، وَتَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِعَانَةِ الْمُحْتَاجِ، وَحُضُورِ جَمَاعَاتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُل أَحَدٍ. اهـ. كَمَا وَرَدَ فِي عُمْدَةِ القَارِي شَرحُ صَحِيحِ البُخَارِي.

وَاللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى أَمَرَ بِالاجْتِمَاعِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الافْتِرَاقِ وَحَذَّرَ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللهِ جَمِيعَاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً﴾.

وَأَعْظَمُ الْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ مِنْهُمْ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعَاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾. اهـ. كَمَا وَرَدَ فِي عُمْدَةِ القَارِي شَرحُ صَحِيحِ البُخَارِي.

وَيَقُولُ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إِنْ وَجَدْتَ جَلِيسَاً يُذَكِّرُكَ اللهَ رُؤْيَتُهُ وَسِيرَتُهُ فَالْزَمْهُ وَلَا تُفَارِقْهُ، وَاغْتَنِمْهُ وَلَا تَسْتَحْقِرْهُ، فَإِنَّهَا غَنِيمَةُ الْمُؤْمِنِ وَضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، وَتَحَقَّقْ أَنَّ الْجَلِيسَ الصَّالِحَ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَأَنَّ الْوَحْدَةَ خَيْرٌ مِنَ الْجَلِيسِ السُّوءِ. اهـ. كَمَا وَرَدَ فِي عُمْدَةِ القَارِي شَرحُ صَحِيحِ البُخَارِي.

 

ثانياً: ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَفْضَلِيَّةِ الْعُزْلَةِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ وَفَسَادِ النَّاسِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي إِزَالَتِهَا بِحَسَبِ الْحَال وَالإِمْكَانِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْفِتْنَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْعُزْلَةِ وَالاِخْتِلَاطِ.

قَال النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: اعْلَمْ أَنَّ الاخْتِلَاطَ بِالنَّاسِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ ـ أَيْ مِنْ شُهُودِ خَيْرِهِمْ دُونَ شَرِّهِمْ، وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ ـ هُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرُ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْيَارِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. اهـ.

ثالثاً: يَنْبَغِي للعَبْدِ إِذَا آثَرَ العُزْلَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ بِاعْتِزَالِهِ عَنِ الخَلْقِ سَلَامَةَ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ، وَلَا يَقْصِدَ سَلَامَتَهُ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الأَوَّلَ نَتِيجَةُ اسْتِصْغَارِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِيَ شُهُودُ مَزِيَّتِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَمَنِ اسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ وَمَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً عَلَى أَحَدٍ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ.

وَأَنْ يَكُونَ خَالِيَاً مِنْ جَمِيعِ الأَذْكَارِ إِلَّا ذِكْرَ رَبِّهِ، خَالِيَاً مِنْ جَمِيعِ الإِرَادَاتِ إِلَّا رِضَا رَبِّهِ، وَخَالِيَاً مِنْ مُطَالَبَةِ النَّفْسِ مِنْ جَمِيعِ الأَسْبَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ خَلْوَتَهُ تُوقِعُهُ فِي فِتْنَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ.

وَأَنْ يَتْرُكَ الْخِصَال الْمَذْمُومَةَ؛ لِأَنَّ الْعُزْلَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ اعْتِزَالُ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ، فَالتَّأْثِيرُ لِتَبْدِيلِ الصِّفَاتِ لَا لِلتَّنَائِي عَنِ الأَوْطَانِ.

وَأَنْ يَأْكُل الْحَلَالَ، وَيَقْنَعَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَعِيشَةِ، وَيَصْبِرَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ أَذَى الْجِيرَانِ، وَيَسُدَّ سَمْعَهُ عَنِ الإِصْغَاءِ إِلَى مَا يُقَال فِيهِ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِالْعُزْلَةِ.

وَلْيَكُنْ لَهُ أَهْلٌ صَالِحَةٌ، أَوْ جَلِيسٌ صَالِحٌ لِتَسْتَرِيحَ نَفْسُهُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ سَاعَةً مِنْ كَدِّ الْمُوَاظَبَةِ، فَفِيهِ عَوْنٌ عَلَى بَقِيَّةِ السَّاعَاتِ.

وَلْيَكُنْ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلْمَوْتِ وَوَحْدَةِ الْقَبْرِ. اهـ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَالاخْتِلَاطُ بِالنَّاسِ، وَتَكْثِيرُ سَوَادِ المُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ خَيْرٌ مِنَ العُزْلَةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ العَبْدُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَيَّامَ الفِتْنِ مِنَ الفِتْنَةِ، وَلَمْ يَجِدْ جَلِيسَاً إِنْ رَآهُ ذَكَّرَهُ اللهَ تعالى، وَإِنْ حَدَّثَهُ زَادَهُ عِلْمَاً، فَعَلَيْهِ بِالعُزْلَةِ بِشُرُوطِهَا التي ذُكِرَتْ. هذا، والله تعالى أعلم.