السؤال :
مَا تَفْسِيرُ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في حَقِّ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 10227
 2020-03-19

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أولًا: لَقَدْ شَهِدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِسَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾. المَخْصُوصُ بِالمَدْحِ هُنَا هُوَ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَاللهُ تعالى وَهَبَ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لِسَيِّدِنَا دَاودَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَيِّدَنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنِعْمَ العَبْدُ سُلَيْمَانُ في دِينِهِ وَفي خُلُقِهِ وَفي شُكْرِهِ لِخَالِقِهِ تعالى.

وَتَعْلِيلُ المَدْحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّابٌ رَجَّاعٌ إلى مَا يُرْضِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.

ثانيًا: قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ﴾ يُطْلَقُ الـعَشِيُّ عَلَى الزَّمَانِ الكَائِنِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلى آخِرِ النَّهَارِ ﴿الصَّافِنَاتُ﴾ جَمْعُ صَافِنٍ، وَالصَّافِنُ مِنَ الخَيْلِ الذي يَقِفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْجُلٍ، وَيَرْفَعُ الرَّابِعَةَ فَيَقِفُ عَلَى مُقَدَّمِ حَافِرِهَا.

﴿الجِيَادُ﴾ جَمْعُ جَوَادٍ، وَهُوَ الفَرَسُ السَّرِيعُ العَدْوِ.

ثالثًا: قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾. الخَيْرُ يُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى المَالِ الوَفِيرِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾.

وَالمُرَادُ بِالخَيرِ في جملة: ﴿أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ أي :أحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْلِ ، وَالعَرَبُ تُسَمِّي الخَيْلَ خَيْرًا، لِتَعَلُّقِ الخَيْرِ بِهَا، روى الشيخان عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ».

قَوْلُهُ: ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ ﴿عَنْ﴾ هُنَا تَعْلِيلِيَّةٌ، فَيَكُونُ المَعْنَى: إِنِّي أَحْبَبْتُ اسْتِعْرَاضَ الصَّافِنَاتِ الجِيَادِ، وَأَحْبَبْتُ تَدْرِيبَهَا وَإِعْدَادَهَا للجِهَادِ، مِنْ أَجْلِ ذِكْرِ رَبِّي وَطَاعَتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ، حَتَّى تَوَارَتْ وَاخْتَفَتْ عَنْ نَظَرِي بِسَبَبِ حُلُولِ الظَّلَامِ الذي يَحْجُبُ الرُّؤْيَةَ.

ثُمَّ قَالَ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رُدُّوا الصَّافِنَاتِ الجِيَادَ عَلَيَّ مَرَّةً أُخْرَى، لِأَزْدَادَ مَعْرِفَةً بِهَا، وَفَهْمًا لِأَحْوَالِهَا، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ بِمَسْحِ سِيقَانِهَا وَأَعْنَاقِهَا إِعْجَابًا بِهَا، وَسُرُورًا بِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ هُوَ في حَاجَةٍ إِلَيْهَا للجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَالخَيْلُ لَمَّا عَادَتْ إِلَيْهِ جَعَلَ يَمْسَحُ سِيقَانَهَا وَأَعْنَاقَهَا وَنَوَاصِيَهَا تَـشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَدْلِيلًا وَسُرُورًا بِهَا، وَتَفَحُّصًا لِأَحْوَالِهَا، وَإِصْلَاحًا لِمَا قَدْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ عُيُوبِهَا، لِأَنَّهَا عُدَّةُ الجِهَادِ، وَوَسِيلَةُ الحَرْبِ.

وَأَمَّا أَنَّهُ مَسَحَهَا بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا لِأَنَّهَا شَغَلَتْهُ عَنْ صَلَاةِ العَصْرِ فَهَذَا بَعِيدٌ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ شَاكِرٍ لِنِعَمِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، يُعَاقِبُ مَا لَيْسَ أَهْلًا للعِقَابِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ القَائِلُ: ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾. فَلَيْسَ مِنَ الشُّكْرِ مَسْحُ سُوقِهَا وَأَعْنَاقِهَا بِالسَّيْفِ. هذا، والله تعالى أعلم.