السؤال :
مَا تَفْسِيرُ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 10259
 2020-03-31

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ هُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ، وَالمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ هُوَ التَّذْكِيرُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ حَتَّى يَدُومَ الشُّكْرُ عَلَيْهَا.

وَأَصْلُ الشَّرْحِ البَسْطُ للشَّيْءِ وَتَوْسِعَتُهُ، وَالمُرَادُ هُنَا هُوَ تَوْسِعَةُ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفَتْحُهُ لِقَبُولِ جَمِيعِ الفَضَائِلِ وَالكَمَالَاتِ التي يَهَبُهَا اللهُ تعالى لَهُ.

وَهَذَا الشَّرْحُ يَشْمَلُ حَادِثَةَ شَقِّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي حَصَلَ لَهُ، كَمَا يَشْمَلُ الشَّرْحَ المَعْنَوِيَّ لِصَدْرِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَرِيقِ إِيدَاعِ الإِيمَانِ وَالهُدَى وَالعِلْمِ الشَّرِيفِ بَعْدَ القُرْآنِ العَظِيمِ.

روى الحاكم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النُّورَ إِذَا دَخَلَ الصَّدْرَ انْفَسَحَ».

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ يُعْرَفُ؟

قَالَ: «نَعَمْ، التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ».

أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الذي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ فَهَذَا بَيَانٌ لِنِعْمَةٍ أُخْرَى أَنْعَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَالمُرَادُ بِالوَضْعِ هُنَا: الإِزَالَةُ وَالحَطُّ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِذَا عُدِّيَ بِعَنْ، كَانَ للحَطِّ وَالإِزَالَةِ وَالتَّخْفِيفِ، أَمَّا إِذَا عُدِّيَ بِعَلَى كَانَ للحِمْلِ وَالتَّثْقِيلِ، نَقُولُ: وَضَعْتُ عَنْ فُلَانٍ دَيْنَهُ، يَعْنِي: أَزَلْتُهُ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ وَضَعْتُ عَلَى فُلَانٍ دَيْنَهُ، فَيَعْنِي حَمَّلْتُهُ إِيَّاهُ.

وَالوِزْرُ هُوَ الحِمْلُ الثَّقِيلُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّنْبِ لِثِقَلِهِ عَلَى صَاحِبِهِ.

فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الذي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ لَقَدْ أَزَلْنَا عَنْكَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَكَ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَعَصَمْنَاكَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ، وَطَهَّرْنَاكَ مِنَ الأَدْنَاسِ، فَصِرْتَ بِفَضْلِ اللهِ تعالى وَإِحْسَانِهِ جَدِيرًا بِحَمْلِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَتَبْلِيغِهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَتَمِّهِ، وَهَذَا مُصَرَّحٌ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَكَأَنَّ الحَقَّ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ الكَرِيمُ، لَقَدْ شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ شَرْحًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ بِشَقِّهِ، وَإِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، وَأَوْدَعْنَا فِيهِ مِنَ الهُدَى وَالمَعْرِفَةِ وَالإِيمَانِ وَالفَضَائِلِ وَالكَمَالَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ غَيْرَكَ.

وَنُونُ العَظَمَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ النِّعْمَةِ، لِأَنَّهَا جَاءَتْ مِنْ عَظِيمٍ، وَالعَظِيمُ يَمْنَحُ العَظِيمَ مِنَ النِّعَمِ.

وَقَوْلُهُ: ﴿لَكَ﴾ يَعْنِي مَا فَعَلَهُ اللهُ تعالى هُوَ لَكَ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ، وَالتَّشْرِيفِ لَكَ، وَتَهْيِئَةً لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ العَظِيمَةِ.

وَوَضَعَ عَنْكَ وِزْرَكَ يَعْنِي ثِقَلَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا الصَّغِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ. هذا، والله تعالى أعلم.