السؤال :
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى في سُورَةِ الأَنْعَامِ: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. هَلْ كَانَ كَلَامُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسَايَرَةً لِقَوْمِهِ حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 11738
 2022-01-23

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَهَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَاتُ التي ذَكَرَهَا اللهُ تعالى في سُورَةِ الأَنْعَامِ، حِكَايَةً عَنْ قِصَّةِ حِوَارِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ الذينَ عَبَدُوا التَّمَاثِيلَ وَالكَوَاكِبَ، فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ مِنْ خِلَالِ مُسَايَرَتِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾. جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، أَيْ: سَتَرَهُ بِظَلَامِهِ وَتَغَشَّاهُ بِظُلْمَتِهِ، وَأَصْلُ الجَنِّ: السَّتْرُ عَنِ الحَاسَّةِ.

يُقَالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ وَجَنَّ عَلَيْهِ يَجِنُّ جَنًّا وَجُنُونًا، وَمِنْهُ الجِنُّ وَالجِنَّةُ بِالكَسْرِ وَالجَنَّةُ بِالفَتْحِ، وَهِيَ البُسْتَانُ الذي يَسْتُرُ بِأَشْجَارِهِ الأَرْضَ.

وَالمَعْنَى: فَلَمَّا سَتَرَ اللَّيْلُ بِظَلَامِهِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ  عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي، قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الفَرَضِ وَإِرْخَاءِ العَنَانِ، مُجَارَاةً مَعَ عُبَّادِ الأَصْنَامِ وَالكَوَاكِبِ لِيَكُرَّ عَلَيْهِ بِالإِبْطَالِ، وَيُثْبِتَ أَنَّ الرَّبَّ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالانْتِقَالُ.

قَالَ صَاحِبُ الكَشَّافِ: كَانَ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالكَوَاكِبَ فَأَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى الخَطَأِ في دِينِهِمْ، وَأَنْ يُرْشِدَهُمْ إلى طَرِيقِ النَّظَرِ وَالاسْتِدْلَالِ، وَيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ مُؤَدٍّ إلى أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، لِقِيَامِ دَلِيلِ الحُدُوثِ فِيهَا، وَأَنَّ وَرَاءَهَا مُحْدِثًا أَحْدَثَهَا، وَصَانِعًا صَنَعَهَا، وَمُدَبِّرًا دَبَّرَ طُلُوعَهَا وَأُفُولَهَا وَانْتِقَالَهَا وَمَسِيرَهَا وَسَائِرَ أَحْوَالِهَا.

وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: هَذَا رَبِّي، قَوْلُ مَنْ يُنْصِفُ خَصْمَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُبْطِلٌ، فَيَحْكِي قَوْلَهُ كَمَا رَوَى غَيْرَ مُتَعَصِّبٍ لِمَذْهَبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إلى الحَقِّ وَأَنْجَى مِنَ الشَّغَبِ، ثُمَّ يَكُرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ فَيُبْطِلُهُ بِالحُجَّةِ.

وَجُمْلَةُ: ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ: فَمَاذَا كَانَ مِنْهُ عِنْدَمَا رَآهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ جَوَابًا لِذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أَيْ: غَابَ وَغَرَبَ: يُقَالُ أَفَلَ الشَّيْءُ يَأْفُلُ أَفْلًا وَأُفُولًا، أَيْ: غَابَ.

وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ أَيْ: لَا أُحِبُّ عِبَادَةَ الأَرْبَابِ المُنَتَقِلِينَ مِنْ مَكَانٍ إلى مَكَانٍ وَمِنْ حَالٍ إلى حَالٍ، لِأَنَّ الأُفُولَ غِيَابٌ وَابْتِعَادٌ، وَشَأْنُ الإِلَهِ الحَقِّ أَنْ يَكُونَ دَائِمَ المُرَاقَبَةِ لِتَدْبِيرِ أَمْرِ عِبَادِهِ.

وَجَاءَ بِالآفِلِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِ المُذَكَّرِ المُخْتَصِّ بِالعُقَلَاءِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ قَوْمِهِ أَنَّ الكَوَاكِبَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ في الأَكْوَانِ.

ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَةً ثَانِيَةً مِنَ الحَالَاتِ التي بَرْهَنَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغًا قالَ هذا رَبِّي﴾ أَيْ: فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ القَمَرَ مُبْتَدِئًا في الطُّلُوعِ، مُنْتَشِرًا ضَوْءُهُ مِنْ وَرَاءِ الأُفُقِ ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾.

وَبَازِغًا: مَأْخُوذٌ مِنَ البُزُوغِ وَهُوَ الطُّلُوعُ وَالظُّهُورُ؛ يُقَالُ: بَزَغَ النَّابُ بُزُوغًا إِذَا طَلَعَ.

فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾.

أَيْ: فَلَمَّا أَفَلَ القَمَرُ كَمَا أَفَلَ الكَوْكَبُ مِنْ قَبْلِهِ قَالَ مُسْمِعًا مَنْ حَوْلَهُ مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى جَنَابِ الحَقِّ وَإِلَى الطَّرِيقِ القَوِيمِ الذي يَرْتَضِيهِ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، لِأَنَّ هَذَا القَمَرَ الذي يَعْتَرِيهِ الأُفُولُ أَيْضًا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا.

وَفِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ هَذَا القَوْلَ تَنْبِيهٌ لَهُمْ لِمَعْرِفَةِ الرَّبِّ الحَقِّ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ وَأَنَّ الكَوَاكِبَ وَالقَمَرَ لَا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةِ.

وَفِي هَذَا تَهْيِئَةٌ لِنُفُوسِ قَوْمِهِ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرَ الكَوَاكِبِ.

ثُمَّ عَرَّضَ بِقَوْمِهِ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ يُدْخِلُ عَلَى نُفُوسِهِمُ الشَّكَّ في مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّهُ لَوْنٌ مِنَ الضَّلَالِ.

وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ كَوْنِ القَمَرِ إِلَهًا بَعْدَ أُفُولِهِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِهِ مَعَ أَنَّ أُفُولَهُ مُحَقَّقٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ اسْتِدْلَالَهُ عَلَى المُشَاهَدَةِ لِأَنَّهَا أَقْوَى وَأَقْطَعُ لِحُجَّةِ الخَصْمِ.

ثُمَّ حَكَى القُرْآنُ الحَالَةَ الثَّالِثَةَ وَالأَخِيرَةَ التي اسْتَدَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، فَقَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ﴾ أَيْ: فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ الشَّمْسَ مُبْتَدِئَةً في الطُّلُوعِ وَقَدْ عَمَّ نُورُهَا الآفَاقَ، قَالَ مُشِيرًا إِلَيْهَا هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ، أَيْ: أَكْبَرُ الكَوَاكِبِ جُرْمًا وَأَعْظَمُهَا قُوَّةً، فَهُوَ أَوْلَى بِالأُلُوهِيَّةِ إِنْ كَانَ المَدَارُ فِيهَا عَلَى التَّفَاضُلِ وَالخُصُوصِيَّةِ.

فَقَوْلُهُ: هَذَا أَكْبَرُ، تَأْكِيدٌ لِمَا رَامَهُ مِنْ إِظْهَارِ النَّصَفَةِ للقَوْمِ، وَمُبَالَغَةٌ في تِلْكَ المُجَارَاةِ الظَّاهِرَةِ لَهُمْ، وَتَمْهِيدٌ قَوِيٌّ لِإِقَامَةِ الحُجَّةِ البَالِغَةِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ إلى مَا يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى مَسَامِعِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَالَ صَاحِبُ الكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ التَّذْكِيرِ في قَوْلِهِ: هَذَا رَبِّي، وَالإِشَارَةُ للشَّمْسِ؟

قُلْتُ: جَعَلَ المُبْتَدَأَ مِثْلَ الخَبَرِ لِكَوْنِهِمَا عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِمْ: مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ وَمَنْ كَانَتْ أُمَّكَ، وَكَانَ اخْتِيَارُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاجِبًا لِصِيَانَةِ الرَّبِّ عَنْ شُبْهَةِ التَّأْنِيثِ أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا في صِفَةِ اللهِ عَلَّامٌ وَلَمْ يَقُولُوا عَلَّامَةٌ وَإِنْ كَانَ العَلَّامَةُ أَبْلَغَ احْتِرَازًا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ.

وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَفَلَتْ، قَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، أَيْ: فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ وَاحْتَجَبَ ضَوْءُهَا، جَاهَرَ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ بِالنَّتِيجَةِ التي يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَةِ الأَجْرَامِ المُتَغَيِّرَةِ التي يَغْشَاهَا الأُفُولُ، وَبَرِيءٌ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى.

قَالَ الآلُوسِيُّ: وَإِنَّمَا احْتَجَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالأُفُولِ دُونَ البُزُوغِ مَعَ أَنَّهُ انْتِقَالٌ، لِأَنَّ الأُفُولَ مُتَعَدِّدُ الدَّلَالَةِ أَيْضًا، إِذْ هُوَ انْتِقَالٌ مَعَ احْتِجَابٍ، وَلَا كَذَلِكَ البُزُوغُ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الأُفُولِ عَلَى المَقْصُودِ ظَاهِرَةُ يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّ الآفِلَ يَزُولُ سُلْطَانُهُ وَقْتَ الأُفُولِ.

هَذَا وَالمُتَأَمِّلُ في هَذِهِ الحَالَاتِ الثَّلَاثِ يَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ سَلَكَ مَعَ قَوْمِهِ أَحْكَمَ الطُّرُقِ في الاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، فَقَدْ تَرَقَّى مَعَهُمْ وَهُوَ يَأْخُذُ بِيَدِهِمْ إلى النَّتِيجَةِ التي يُرِيدُهَا بِأُسْلُوبٍ يُقْنِعُ العُقُولَ السَّلِيمَةَ، وَرَحِمَ اللهُ صَاحِبَ الانْتِصَافِ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالتَّعْرِيضُ بِضَلَالِهِمْ ثَانِيًا، أَيْ: في قَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ أَصْرَحُ وَأَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ: أَوَّلًا لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَإِنَّمَا تَرَقَّى إلى ذَلِكَ، لِأَنَّ الخُصُومَ قَدْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ بِالاسْتِدْلَالِ الأَوَّلِ حُجَّةً، فَأَنِسُوا بِالقَدَحِ في مُعْتَقَدِهِمْ، وَلَو قِيلَ هَذَا في الأَوَّلِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَنْفِرُونَ وَلَا يُصْغُونَ إلى الاسْتِدْلَالِ، فَمَا عَرَّضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُمْ في ضَلَالَةٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَثِقَ بِإِصْغَائِهِمْ إلى تَمَامِ المَقْصُودِ وَاسْتِمَاعِهِمْ إلى آخِرِهِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَرَقَّى في النَّوْبَةِ الثَّالِثَةِ إلى التَّصْرِيحِ بِالبَرَاءَةِ مِنْهُمْ وَالتَّقْرِيعِ بِأَنَّهُمْ عَلَى شِرْكٍ حِينَ تَمَّ قِيَامُ الحُجَّةِ، وَتَبَلُّجَ الحَقِّ، وَبَلَغَ مِنَ الظُّهُورِ غَايَةَ المَقْصُودِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَسَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ الذي قَالَهُ مِنْ بَابَ المُسَايَرَةِ لِقَوْمِهِ لِإِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَحَاشَا لِسَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ مِنْ بَابِ الشِّرْكِ ـ مَعَاذَ اللهِ تعالى ـ لِأَنَّ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ أَثْبَتَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ بَرَاءَةَ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ مِنَ الشِّرْكِ، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

وَ قَالَ تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾. هذا، والله تعالى أعلم.