السؤال :
مَا حُكْمُ الرَّجُلِ الذي يَضْرِبُ وَلَدَهُ وَيَحْرِقُ يَدَيْهِ مِنْ أَجْلِ إِلْزَامِهِ حِفْظَ القُرْآنِ الكَرِيمِ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 11855
 2022-03-21

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

وَيَقُولُ تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. هَذَا أَوَّلًا.

ثَانِيًا: تَأْدِيبُ الصَّغِيرِ إِنَّمَا يَبْدَأُ بِالقَوْلِ، ثُمَّ بِالوَعِيدِ، ثُمَّ بِالتَّعْنِيفِ، ثُمَّ بِالضَّرْبِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يَجِبُ مَرَاعَاتُهُ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلى مَرْتَبَةٍ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا يَفِي بِالغَرَضِ، وَهَذَا هُوَ الإِصْلَاحُ.

يَقُولُ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَمَهْمَا حَصَلَ التَّأْدِيبُ بِالأَخَفِّ مِنَ الأَفْعَالِ وَالأَقْوَالِ، لَمْ يُعْدَلْ إِلَى الأَغْلَظِ، إِذْ هُوَ مَفْسَدَةٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِحُصُولِ الغَرَضِ بِمَا دُوْنَهُ. اهـ.

وَيُشْتَرَطُ في الضَّرْبِ عِنْدَ مَشْرُوعِيَّةِ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ تَحْقِيقُهُ لِلْمَصْلَحَةِ المَرْجُوَّةِ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَأَنْ يَتَوَقَّى فِيهِ الوَجْهَ وَالمَوَاضِعَ المُهْلِكَةِ.

وَيَقُولُ العِزُّ بْنُ عَبْدُ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى المَصَالِحِ وَالمَفَاسِدِ مَعَ رُجْحَانِ مَصَالِحِهَا عَلَى مَفَاسِدِهَا: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ لَا يُصْلِحُهُ إِلاَّ الضَّرْبُ المُبَرِّحُ، فَهَل يَجُوزُ ضَرْبُهُ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ تَأْدِيبِهِ؟

قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَل لَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، لِأَنَّ الضَّرْبَ الَّذِي لَا يُبْرِّحُ مَفْسَدَةٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى مَصْلَحَةِ التَّأْدِيبِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّأْدِيبُ بِهِ، سَقَطَ الضَّرْبُ الخَفِيفُ كَمَا يَسْقُطُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، لِأَنَّ الْوَسَائِلَ تَسْقُطُ بِسُقُوطِ المَقَاصِدِ. اهـ.

ثَالِثًا: نَصَّ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّأْدِيبُ بِإِحْرَاقِ الجِسْمِ أَو بَعْضِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ، إِلَّا رَبُّ النَّارِ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ.

رَابِعًا: حِفْظُ القُرْآنِ العَظِيمِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَدَرَجَةٌ عَالِيَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُسْتَحَبُّ حِفْظُ كِتَابِ اللهِ تعالى عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ لِمَنْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ سَبِيلًا، آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.

كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ مِنَ القُرْآنِ مَا تَصِحُّ بِهِ صَلَاتُهُ، كَحِفْظِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ، وَبَعْضِ قِصَارِ السُّوَرِ لِتَصِحَّ صَلَاتُهُ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَلَا يَجُوزُ ضَرْبُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ مِنْ أَجْلِ حِفْظِ القُرآنِ الكَرِيمِ غَيْبًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا في تَنْفِيرِهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكيْفَ إِذَا قَامَ بِحَرْقِ يَدَيْهِ، أَو بَعْضِ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ، فَكُلُّ هَذَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَكَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ.

وَعَلَى الوَالِدِ أَنْ يُرَغِّبَ وَلَدَهُ أَوَّلًا بِتِلَاوَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَيُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَ التِّلَاوَةِ، حَتَّى إِذَا أَتْقَنَ التِّلَاوَةَ يُرَغِّبُهُ بِحِفْظِهِ غَيْبًا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَإِلَّا كَانَ الأَبُ آثِمًا. هذا، والله تعالى أعلم.