السؤال :
قَالَ اللهُ تعالى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾. فَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ: ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ مَعَ أَنَّهُ نَهْرٌ وَاحِدٌ، فَمَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 12013
 2022-06-14

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَكَلَامُ فِرْعَوْنَ كَلَامُ مَخْلُوقٍ مَغْرُورٍ بِمَا آتَاهُ اللهُ تعالى، وَمَا عَرَفَ فِرْعَوْنُ أَنَّ مِصْرَ بِالنِّسْبَةِ للعَالَمِ إِلَّا كَوَاحِدٍ مِنَ المِلْيُونِ، فَالقَارَّاتُ في الأَرْضِ كَبِيرَةٌ وَوَاسِعَةٌ، وَلَكِنْ لِسَخَافَةِ عَقْلِهِ، وَلِجُنُونِهِ، وَلِكُفْرِهِ، وَلِعِنَادِهِ ظَنَّ أَنَّهُ بِحُكْمِهِ لِمِصْرَ سَيَكُونُ إِلَهًا، وَيَقُولُ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾. وَيَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾.

هَذَا المَغْرُورُ قَالَ الذي قَالَهُ وَهُوَ فَاقِدٌ عَقْلَهُ وَمَنْطِقَهُ، بَعْدَ أَنْ جَاءَهُ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالبَيِّنَاتِ الوَاضِحَاتِ، وَالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ.

وَكَانَ الرَّشِيدُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ ضَحِكَ وَعَجِبَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ ـ وَمَا مِصْرُ بِالنِّسْبَةِ لِدَوْلَةِ هَارُونَ الرَّشِيدِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إِلَّا جُزْءًا مِنْ دَوْلَتِهِ ـ فَكَانَ يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَاللهِ لَا يَحْكُمُهَا إِلَّا غُلَامِيَ المُكَلَّفُ بِأُمُورِي، فَذَهَبَ هَذَا الغُلَامُ الخَصِيُّ لِيَحْكُمَ مِصْرَ، فَوَجَدَ مَا وَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَنْ أَحْكُمَ بَلَدًا حَكَمَهَا فِرْعَوْنُ، وَرَفَضَ عَبْدُ هَارُونَ أَنْ يَحْكُمَ مِصْرَ التي حَكَمَهَا مَنِ ادَّعَى الأُلُوهِيَّةَ، وَجَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّتِهِ.

ثُمَّ وَلِيَهَا كَافُورُ الأَخْشِيدِيُّ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ أَجْعَدُ الشَّعْرِ أَفْطَسُ الأَنْفِ لَا يُرَى مِنْهُ أَبْيَضُ إِلَّا أَسْنَانُهُ وَبَيَاضُ عَيْنَيْهِ، فَحَكَمَ مِصْرَ أَحْسَنَ حُكْمٍ عَدْلًا وَعِلْمًا وَأَمْنًا، وَقَضَى عَلَى كُلِّ فِتْنَةٍ وَفَسَادٍ، حَتَّى قَالَ النَّاسُ: أَيْنَ كَافُورُ مِنْ فِرْعَوْنَ المُتَأَلِّهِ الكَاذِبِ عَلَى اللهِ؟ الذي قَالَ: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾.

أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ فَمِنْ مُنْطَلَقِ الغُرُورِ وَالاسْتِكْبَارِ، فَمَا هُوَ إِلَّا نَهْرٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ جَعَلَ لَهُ فُرُوعًا، وَسَمَّى كُلَّ فِرْعٍ بِاسْمٍ، فَأَضَافَ إِلَيْهَا كَلِمَةَ الأَنْهَارِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَالحَقِيقَةُ هِيَ نَهْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ نَهْرُ النِّيلِ، وَلَكِنْ مِنْ غُرُورِ فِرْعَوْنَ وَاسْتِعْلَائِهِ قَالَ: ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾. فَجَعَلَ كُلَّ فِرْعٍ لِنَهْرِ النِّيلِ اسْمَ نَهْرٍ، كَمَا جَاءَ في تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ: يَعْنِي أَنْهَارَ النِّيلِ، وَمُعْظَمُهَا أَرْبَعَةٌ: نَهْرُ المَلِكِ، وَنَهْرُ طُولُونَ، وَنَهْرُ دِمْيَاطَ، وَنَهْرُ تَنِيسٍ.

قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ جِنَانًا وَأَنْهَارًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِ قُصُورِهِ.

وَقِيلَ: مِنْ تَحْتِ سَرِيرِهِ؛ وَقِيلَ: ﴿مِنْ تَحْتِي﴾ أَيْ: تَصَرُّفِي نَافِذٌ فِيهَا مِنْ غَيْرِ صَانِعٍ. اهـ. هذا، والله تعالى أعلم.