السؤال :
يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾. فَبِأَيِّ الأَمْرَيْنِ تَمَّتْ نَجَاةُ سَيِّدِنَا يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ بَطْنِ الحُوتِ؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 12371
 2023-01-30

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَقَوْلُهُ تعالى في حَقِّ سَيِّدِنَا يُونُسَ بْنِ مَتَّى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ﴾. سَبَبُهُ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى أَرْسَلَهُ إلى أَهْلِ نِينَوَى بِالعِرَاقِ، فَدَعَاهُمْ إلى إِخْلَاصِ العِبَادَةِ للهِ تعالى، فَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ، فَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ العَذَابَ سَيَأْتِيهِمْ خِلَالَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّالِثِ خَرَجَ سَيِّدُنَا يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ بَلْدَةِ قَوْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ تعالى لَهُ بِالخُرُوجِ، فَلَمَّا افْتَقَدَهُ قَوْمُهُ، آمَنُوا، وَتَابُوا، وَتَضَرَّعُوا إلى اللهِ تعالى قَبْلَ نُزُولِ العَذَابِ بِهِمْ.

وَمَضَى سَيِّدُنَا يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى أَتَى سَفِينَةً فَرَكِبَهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إلى اللُّجَّةِ وَقَفَتْ وَلَمْ تَتَحَرَّكْ، فَقَالَ صَاحِبُهَا: مَا يَمْنَعُهَا أَنْ تَسِيرَ إِلَّا أَنَّ فِيكُمْ رَجُلًا مَسْؤُومًا، فَاقْتَرَعُوا لِيُلْقُوا في البَحْرِ مَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ القُرْعَةُ، فَكَانَتْ عَلَى سَيِّدِنَا يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ أَعَادُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَلْقَى نَفْسَهُ في البَحْرِ.

فَسَيِّدُنَا يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَرَبَ مِنْ قَوْمِهِ إلى الفُلْكِ المَلِيءِ بِالنَّاسِ وَالأَمْتِعَةِ، وَحَصَلَ الذي حَصَلَ، فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ، أَيْ: مِنَ المَغْلُوبِينَ، حَيْثُ وَقَعَتْ عَلَيْهِ القُرْعَةُ، فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ بِسُرْعَةٍ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُكْتَسِبٌ مِنَ الأَفْعَالِ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ، حَيْثُ غَادَرَ قَوْمَهُ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى.

قَالَ تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. يَعْنِي: لَقَدْ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ المُدَاوِمِينَ عَلَى ذِكْرِهِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّسْبِيحُ لَلَبِثَ في بَطْنِ الحُوتِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾. فَلَا تَكُنْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ الكَرِيمُ كَصَاحِبِ الحُوتِ، وَهُوَ سَيِّدُنَا يُونُسُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ: لَا يَكُنْ مِنْكَ مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الضَّجَرِ وَالغَضَبِ عَلَى قَوْمِهِ الذينَ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَفَارَقَهُمْ دُونَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ بِمُفَارَقَتِهِمْ.

وَالمَكْظُومُ هُوَ المَمْلُوءُ غَضَبًا وَغَيْظًا وَكَرْبًا، أَيْ: لَا يَكُنْ حَالُكَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ الكَرِيمُ كَحَالِهِ وَقْتَ نِدَائِهِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مَمْلُوءٌ غَيْظًا وَكَرْبًا لِمَا حَدَثَ لَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَلِمَا أَصَابَهُ مِنْ بَلَاءٍ وَهُوَ في بَطْنِ الحُوتِ، فَقَالَ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

قَالَ تعالى بَعْدَ هَذَا التَّوْجِيهِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرًا لَهُ: ﴿لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾. يَعْنِي: لَوْلَا أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى تَدَارَكَ عَبْدَهُ يُونُسَ بِرَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَقَبُولِ تَسْبِيحِهِ، لَطُرِحَ مِنْ بَطْنِ الحُوتِ بِالأَرْضِ الفَضَاءِ الخَالِيَةِ مِنَ النَّبَاتِ وَالعُمْرَانِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ، أَيْ: مَلُومٌ وَمُؤَاخَذٌ مِنَّا عَلَى مَا حَدَثَ مِنْهُ.

فَالمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بَيَانُ فَضْلِ اللهِ تعالى عَلَى عَبْدِهِ سَيِّدِنَا يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيَانُ أَنَّ رَحْمَتَهُ تَبَارَكَ وتعالى بِهِ، وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، قَدْ حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ مُغَاضَبَةٍ لِقَوْمِهِ، وَمُفَارَقَتِهِ لَهُمْ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَسَيِّدُنَا يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا خَرَجَ مِنْ بَلْدَةِ قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى، الْتَقَمَهُ الحُوتُ، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ، وَتَدَارَكَتْهُ نِعْمَةُ اللهِ تعالى بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَقَبُولِ تَسْبِيحِهِ، لَنُبِذَ بِالعَرَاءِ مَعَ المَذَمَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ التَّسْبِيحُ، وَحَصَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّهِ بِقَبُولِهِ وَقَبُولِ تَسْبِيحِهِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ نَبْذٌ بِالعَرَاءِ مَعَ هَذَا الوَصْفِ.

أَو لَوْلَا هَذِهِ النِّعْمَةُ لَبَقِيَ في بَطْنِ الحُوتِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ثُمَّ نُبِذَ بِعَرَاءِ القِيَامَةِ مَذْمُومًا.

وَمَا حَصَلَ مِنْ سَيِّدِنَا يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ مِنْ بَابِ: حَسَنَاتُ الأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ.

وَهَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِكْثَارَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَذِكْرِ اللهِ تعالى سَبَبٌ في تَفْرِيجِ الكُرُوبِ، وَإِزَالَةِ الهُمُومِ بِإِذْنِ اللهِ تعالى، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ».

فَالتَّسْبِيحُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعَانِ العَبْدَ إِذَا تَعَثَّرَتْ قَدَمُهُ. هذا، والله تعالى أعلم.