1ـ دروس رمضانية 1435 هـ: (بلوغ رمضان نعمة عظيمة)

 

 1ـ دروس رمضانية1435 هـ: (بلوغ رمضان نعمة عظيمة)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: ها هوَ شَهرُ رَمَضَانَ قد فَتَحَ سِجِلَّاتِهِ بَعدَ أن طُوِيَت سِجِلَّاتُ شَهرِ شَعبَانَ، ها هوَ شَهرُ رَمَضَانَ الذي تَنفَتِحُ لَهُ قُلُوبُ وصُدُورُ العَارِفِينَ باللهِ تعالى، حَيثُ تَمتَلِئُ فِيهِ نُفُوسُهُم غِبطَةً وأَمَلاً، ها هوَ شَهرُ رَمَضَانَ الذي تَاقَت لَهُ الأرواحُ، وهَفَتْ لِشَدْوِ آذانِهِ الآذانُ.

مَنْ مِنَ المُسلِمِينَ لا يَعرِفُ فَضْلَ شَهرِ رَمَضَانَ وقَدْرَهُ؟

مَنْ مِنَ المُسلِمِينَ لا يَعرِفُ أنَّ شَهرَ رَمَضَانَ هوَ سَيِّدُ الشُّهُورِ وخَيرُها؟

مَنْ مِنَ المُسلِمِينَ لا يَعرِفُ أنَّ شَهرَ رَمَضَانَ هوَ شَهرُ القُرآنِ، وفِيهِ لَيلَةٌ هيَ خَيرٌ من ألفِ شَهرٍ؟

مَنْ مِنَ المُسلِمِينَ لا يَعرِفُ أنَّ من صَامَ هذا الشَّهرَ حَقَّ الصِّيَامِ، وقَامَهُ حَقَّ القِيَامِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنبِهِ وما تَأَخَّرَ؟

مَنْ مِنَ المُسلِمِينَ لا يَعرِفُ أنَّ أبوَابَ السَّمَاءِ تُفتَحُ فِيهِ، وأبوَابَ الجِنَانِ، وتُغَلَّقُ فِيهِ أبوَابُ الجَحِيمِ، وتُصَفَّدُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ؟

مَنْ مِنَ المُسلِمِينَ لا يَعرِفُ بأنَّ دُعَاءَ الصَّائِمِ مُستَجَابٌ؟

بُلُوغُ رَمَضَانَ نِعمَةٌ عَظِيمَةٌ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ بُلُوغَ رَمَضَانَ نِعمَةٌ عَظِيمَةٌ من نِعَمِ اللهِ تعالى على عَبدِهِ، وفَضْلٌ كَبِيرٌ من اللهِ تعالى، فالسَّعِيدُ من بَلَغَ رَمَضَانَ وهوَ مُؤمِنٌ مُلتَزِمٌ دِينَ اللهِ عزَّ جلَّ، حتَّى إنَّ العَبدَ بِبُلُوغِ رَمَضَانَ وصِيَامِهِ وقِيَامِهِ يَسبِقُ الشُّهَدَاءَ في سَبِيلِ اللهِ الذينَ لم يُدرِكُوا رَمَضَانَ.

روى ابن ماجه عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعاً، فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَاداً مِن الْآخَرِ.

فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ.

قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِهِمَا.

فَخَرَجَ خَارِجٌ مِن الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ.

فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ.

فَقَالَ: «مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟».

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَاداً ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟».

قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: «وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟».

قَالُوا: بَلَى.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

فُرصَةٌ عَظِيمَةٌ:

أيُّها الإخوة الكرام: ها نَحنُ أمامَ رَمَضَانَ جَدِيدٍ، وقد مَنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَينا وكَتَبَ لنا الحَيَاةَ لِنُدْرِكَ فُرصَةً أُخرَى نَختَبِرُ فِها صِدْقَنا ورَغبَتَنا في الخَيرِ، أمَا يَدعُو أَحَدُنا: اللَّهُمَّ أَطِلْ أعمَارَنا وحَسِّنْ أعمَالَنا؟

فها نَحنُ أمامَ فُرصَةٍ عَظِيمَةٍ، فماذا سَنَفعَلُ في هذا الشَّهرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ؟ هل سَنُبَادِرُ في الاصطِلاحِ مَعَ اللهِ تعالى؟ هل سَنُبَادِرُ في الإصلاحِ بَينَ العِبَادِ؟ هل سَنُبَادِرُ في الأمرِ بالمَعرُوفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ؟ هل سَنُبَادِرُ بإعطَاءِ صُورَةٍ حَسَنَةٍ عن دِينِنَا الذي هوَ سِرُّ سَعَادَةِ البَشَرِيَّةِ؟

أم سَنُفَرِّطُ في هذا الشَّهرِ العَظِيمِ حتَّى يُغَادِرَنا كما غَادَرَنا شَهرُ شَعبَانَ ثمَّ نَندَمَ، ولا يَنفَعُنا النَّدَمُ؟

أيُّها الإخوة الكرام: ماذا نَفعَلُ لو طُوِيَت أعمَارُنا قَبلَ هذا اليَومِ؟

هل نَستَطِيعُ العَمَلَ الصَّالِحَ بَعدَ المَوتِ؟ هل نَستَطِيعُ الصِّيَامَ والقِيَامَ بَعدَ المَوتِ؟ هل نَستَطِيعُ التَّوبَةَ والإنَابَةَ بَعدَ المَوتِ؟ هل نَستَطِيعُ إعَادَةَ الحُقُوقِ لأصحَابِهَا بَعدَ المَوتِ؟ هل تَستَطِيعُ المَرأَةُ أن تَتَحَجَّبَ بَعدَ المَوتِ؟ هل تَستَطِيعُ المَرأَةُ أن تَبَرَّ زَوجَهَا بَعدَ المَوتِ؟ هل تَستَطِيعُ المَرأَةُ أن تَعتَذِرَ إلى من أسَاءَت إلَيها بَعدَ المَوتِ؟

ماذا نَفعَلُ لو طُوِيَت أعمَارُنا قَبلَ هذا اليَومِ؟ ونَحنُ قد قَرَأنا في كِتَابِ رَبِّنا عزَّ وجلَّ عَمَّن حَضَرَتهُم سَكَرَاتُ المَوتِ فَنَدِمُوا، لكن ما نَفَعَهُمُ النَّدَمُ، تَذَكَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. وتَذَكَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد أعطَانا رَبُّنا عزَّ جلَّ  فُرصَةً عَظِيمَةً بأن بَلَّغَنا هذا الشَّهرَ العَظِيمَ، وحَرَمَها غَيرَنا مِمَّن فَارَقَ هذهِ الحَيَاةَ الدُّنيا، وأفضَى إلى ما قَدَّمَ ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: كم من رَجُلٍ صَلَّى مَعَنا في هذا المَسجِدِ في رَمَضَانَ المَاضِي؟ ثمَّ ها هوَ مُوَسَّدٌ تَحتَ أطبَاقِ الثَّرَى وَحِيداً فَرِيداً، أينَ المَالُ والوَلَدُ؟ أينَ الجَاهُ والمَكَانَةُ؟ أينَ الوَالِدُ والوَلَدُ؟ أينَ الطَّاعَاتُ والقُرُبَاتُ؟ بالمَوتِ انتَهَى التَّكلِيفُ.

السَّعِيدُ من خُتِمَ لَهُ على الطَّاعَاتِ، والشَّقِيُّ من خُتِمَ لَهُ على المَعَاصِي والمُنكَرَاتِ، فهل من تَائِبٍ؟ فهل من مُصطَلِحٍ مَعَ اللهِ تعالى؟ ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾.

ألَمْ يَأنِ لأهلِ هذا البَلَدِ أن يَصطَلِحُوا مَعَ اللهِ تعالى، أن يَصطَلِحُوا فِيما بَينَ بَعضِهِمُ البَعضِ، أن يَكُفُّوا عن سَفْكِ الدِّمَاءِ؟ إنَّها فُرصَةٌ عَظِيمَةٌ لمن بَلَّغَهُ اللهُ تعالى شَهرَ رَمَضَانَ، وهوَ يُنَادِيهِ بِقَولِهِ تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾.

يا رَبِّ أدخِلْ عَظِيمَ جُرْمِنَا في عَظِيمِ عَفْوِكَ، واشرَحْ صُدُورَنَا للتَّوبَةِ والإنَابَةِ قَبلَ مَوتِنَا يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 1/ رمضان/1435هـ، الموافق: 29/حزيران / 2014م