2ـ دروس رمضانية 1435هـ: (لا تَستَهِنْ بِعَمَلٍ صَالِحٍ ولو كَانَ قليلاً)

 

 2ـ دروس رمضانية 1435هـ: (لا تَستَهِنْ بِعَمَلٍ صَالِحٍ ولو كَانَ قليلاً)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: لقَد بَلَّغَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ شَهرَ رَمضَانَ، وهذِهِ نِعمَةٌ مِن أَجَلِّ النِّعَمِ وأَعظَمِهَا، لقد بَلَّغَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ شَهرَ رَمضَانَ مَعَ وُجُودِ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ وللهِ الحَمدُ، بَلَّغَنَا شَهرَ رَمضَانَ، وغَيرُنَا شَهِدَ هذا الشَّهرَ الَعظِيمَ المُبَارَكَ، ولكن كَانَ شَاهِدَاً عَلَيهِ، فَهوَ منَ الخَاسِرِينَ ـ والعِياذُ باللهِ تعالى ـ.

أيُّها الإخوة الكرام: الكَثِيرُ من النَّاسِ اليَومَ في غَفلَةٍ عن هذا الشَّهرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وما عَرَفُوا أنَّ أَجْرَ الأعمالِ فِيهِ مُضَاعَفٌ يَومَ القِيَامَةِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه ابنُ خُزَيمَةَ في صَحِيحِهِ عن سَلمَانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: خَطَبَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في آخِرِ يَومٍ من شَعبَانَ قال: «يا أَيُّها النَّاسُ...... من تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصلَةٍ من الخَيرِ كَانَ كَمَن أَدَّى فَرِيضَةً فِيما سِوَاهُ، ومن أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَن أَدَّى سَبعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ».

فَلنُبَادِرْ فِيهِ إلى العَمَلِ الصَّالِحِ، لأنَّهُ من فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ على عِبَادِهِ المُؤمِنِينَ أنَّهُ يَجعَلُهُم في نَعِيمٍ في حَيَاتِهِمُ الدُّنيا، وفي الآخِرَةِ نَعِيمٌ أَعظَمُ من نَعِيمِ الدُّنيا، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لا تَظُنُّوا أنَّ النَّعِيمَ يَختَصُّ بِيَومِ المَعَادِ يَومَ القِيَامَةِ، نَعَم، رَبُّنَا عزَّ  وجلَّ يَقُولُ: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾.

ولكن هذا لَيسَ مَقصُورَاً على الآخِرَةِ فَقَط، فالأبرَارُ هُم في نَعِيمٍ في الحَيَاةِ الدُّنيا، وهُم في نَعِيمٍ في عَالَمِ البَرزَخِ، وهُم في نَعِيمٍ مُقِيمٍ في عَالَمِ الآخِرَةِ، والفُجَّارُ هُم في جَحِيمٍ في الحَيَاةِ الدُّنيا، وهُم في جَحِيمٍ في عَالَمِ البَرزَخِ، وهُم في جَحِيمٍ في عَالَمِ الآخِرَةِ.

النَّوَافِلُ من أَحَبِّ الأعمَالِ إلى اللهِ تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: اِغتَنِمُوا هذا الشَّهرَ العَظِيمَ المُبَارَكَ بالنَّوَافِلِ بَعدَ أَدَاءِ الفَرَائِضِ والوَاجِبَاتِ، لأنَّ النَّوَافِلَ من أَحَبِّ الأعمَالِ إلى اللهِ تعالى بَعدَ أَدَاءِ الفَرَائِضِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».

 لا تَستَهِنْ بِعَمَلٍ صَالِحٍ ولو كَانَ قَلِيلاً:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على العَبدِ أنْ لا يَستَهِينَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ ولو كَانَ قَلِيلاً حَسْبَ الظَّاهِرِ، فَرَبُّنَا عزَّ وجلَّ يُعطِي على القَلِيلِ إذا قَبِلَهُ الكثيرَ، فهذا وَاحِدٌ من أصحَابِ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اسمُهُ حَاطِبُ ابن أبي بَلتَعَةَ، وكَانَ قد شَهِدَ بَدْرَاً، يُرسِلُ كِتَابَاً إلى قُرَيشٍ يُخبِرُهُم عن قَصْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، ويُطلِعُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على ذلكَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِن الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ».

فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقُلْنَا: الْكِتَابُ.

فَقَالَتْ: مَا مَعَنَا كِتَابٌ.

فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا، فَلَمْ نَرَ كِتَاباً، فَقُلْنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ ـ لَنُلزِمَنَّكِ ـ

فَلَمَّا رَأَت الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا ـ يَعنِي: ضَرَبَت بِيَدِها إلى مَعقِدِ نِطَاقِهَا من جَسَدِهَا ـ وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ ـ أي: شَادَّةً لَهُ ـ فَأَخْرَجَتْهُ.

فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟».

قَالَ حَاطِبٌ: واللهِ مَا بِي أَنْ لَا أَكُونَ مُؤْمِناً باللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ، وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْراً».

فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ.

فَقَالَ: «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُم الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».

فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

أيُّها الإخوة الكرام: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ يَختَصُّ بِرَحمَتِهِ مَن يَشَاءُ، لقد اختَصَّ أَهلَ بَدْرٍ بما لم يَختَصَّ بِهِ أَهلَ أُحُدٍ ولا الخَندَقِ ولا غَيرِهَا من الغَزَوَاتِ.

لِذَا ما يَنبَغِي على العَبدِ أن يَستَهِينَ بِطَاعَةٍ من الطَّاعَاتِ، لأنَّ رَبَّنَا عزَّ وجلَّ أَخفَى رِضَاهُ في طَاعَتِهِ، كَمَا أَخفَى سَخَطَهُ في مَعصِيَتِهِ.

بَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: عَمَلٌ قَلِيلٌ إذا قَبِلَهُ اللهُ تعالى أَسعَدَكَ اللهُ تعالى سَعَادَةً ما بَعدَهَا سَعَادَةٌ، هذهِ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا نَاصَرَتْ سَيِّدَنَا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَحلَكِ الظُّرُوفِ، وفي أَحرَجِ الأوقَاتِ، فَقَالَت لَهُ كَلِمَتَها المَشهُورَةَ: أَبْشِرْ، فواللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَداً، فواللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. رواه الإمام البخاري.

هَل يَضِيعُ هذا العَمَلُ عِندَ من يَقُولُ: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾؟

لقد حَفِظَ اللهُ تعالى عَمَلَها هذا، ومَوقِفَها هذا،وكَافَأَها على ذلكَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا، وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ).

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: شَهرُ رَمَضَانَ مَحَطَّةٌ لِمُضَاعَفَةِ الأَجْرِ على الطَّاعَاتِ، فَلنَسمَعْ جَمِيعَاً النِّدَاءَ: يَا بَاغِيَ الخَيرِ أَقبِلْ وأبَشِرْ، ويَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقصِرْ وأَبصِرْ.

فَاغتَنِمُوا هذا الشَّهرَ أَوَّلاً بِكَفِّ الأَيدِي والأَلسُنِ عن المُسلِمِينَ، ثمَّ بِكَثرَةِ الطَّاعَاتِ والنَّوَافِلِ في اللَّيلِ والنَّهَارِ، وأنتُم تَذكُرُونَ قَولَ الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرَّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون﴾.

هذا الشَّهرُ العَظِيمُ المُبَارَكُ مَوسِمٌ للتَّنَافُسِ فِيهِ بالطَّاعَاتِ، فقد صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وأُضعِفَتِ النَّفسُ الأَمَّارَةُ بالسُّوءِ بالصَّومِ، فَاغتَنِمُوا هذهِ الفُرصَةَ بالقُرُبَاتِ، ولا تَدرِي أيَّ طَاعَةٍ يَقبَلُها اللهُ تعالى مِنكَ فَيُسعِدُكَ بها دُنيا وأُخرَى؟

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لما يُرضِيكَ عَنَّا يا رَبَّ العَالَمِينَ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 2/ رمضان/1435هـ، الموافق:30/حزيران / 2014م