4ـ دروس رمضانية 1435هـ: (صاحب الهمة لا يفوت الفرص)

 

 4ـ دروس رمضانية 1435هـ: (صاحب الهمة لا يفوت الفرص)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: يَقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾. ويَقُولُ تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.

المُسَارَعَةُ في الخَيرَاتِ والمَبَرَّاتِ شِعَارُ الأنبِيَاءِ والمُرسَلِينَ، هذا سَيِّدُنا مُوسَى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُخَاطِبُهُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ بِقَولِهِ: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾.

وهذا سَيِّدُنا إبرَاهِيمُ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولُوطٌ ونُوحٌ وداودُ وسُلَيمانُ وأَيُّوبُ وإسمَاعِيلُ وإدرِيسُ وذو الكِفلِ وذو النُّونِ وزَكَرِيَّا يَشهَدُ اللهُ تعالى لَهُم بِقَولِهِ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.

وروى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قِصَّةِ غَزوَةِ بَدْرٍ الكُبرَى، لمَّا دَنَا المُشرِكُونَ قالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ».

قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَ: بَخٍ بَخٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ».

قَالَ: لَا واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.

قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا».

فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ؛ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.

أيُّها الإخوة الكرام: اِغتَنِمُوا فُرصَةَ شَهرِ رَمَضَانَ، فَلَعَلَّهُ أن لا يَأتِيَ عَلَينا في السَّنَةِ القَادِمَةِ، ولَعَلَّنا أن لا نُدرِكَ آخِرَهُ، اِغتَنِمُوهُ في فِعلِ الطَّاعاتِ والقُرُبَاتِ، ولا تُسَوِّلُوا ولا تُسَوِّفُوا، واسمَعُوا قَولَ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ : «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» رواه الحاكم وأبو داود عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما.

صَاحِبُ الهِمَّةِ لا يُفَوِّتُ الفُرَصَ:

أيُّها الإخوة الكرام: صَاحِبُ الهِمَّةِ لا يُفَوِّتُ الفُرَصَ، بل لا يُفَوِّتُ نَفَسَاً من أنفَاسِ عُمُرِهِ من غَيرِ فَائِدَةٍ، وخَاصَّةً إذا عَلِمَ قِيمَةَ الوَقتِ.

وأجمَعَ العُقَلاءُ على أنَّ المَعَالِي لا تُنَالُ بالرَّاحَةِ والسُّكُونِ، بل كما قالَ سَيِّدُنا عُمَرُ الفَارُوقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: طَلَبُ الرَّاحَةِ للرِّجَالِ غَفلَةٌ.

أيُّها الإخوة الكرام: لا تَشغَلَنَّكُمُ الظُّرُوفُ التي نَحنُ فِيها عن التَّنَافُسِ في الطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ، فمن استَغَلَّ الوَقتَ في الطَّاعَاتِ لن يَندَمَ، ومن سَوَّفَ وسَوَّلَ نَدِمَ إنْ شَاءَ وإنْ أبَى.

ماذا في صَحِيفَتِكَ من الأعمَالِ؟

أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ في خِتَامِ كُلِّ يَومٍ: ماذا في صَحِيفَتِي من الأعمَالِ الصَّالِحَةِ اليَومَ؟ تَصَوَّرْ هذا السُّؤَالَ من اللهِ تعالى إنَّهُ سَائِلُكَ إيَّاهُ: ماذا في صَحِيفَةِ أعمَالِكَ اليَومَ؟ اُنظُرُوا إلى سَلَفِنَا الصَّالِحِ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِماً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِيناً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضاً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».

هل كُنتَ سَبَباً في هِدَايَةِ رَجُلٍ؟

أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ وَاحِدٍ فِينا مُؤَثِّرٌ في الآخَرِينَ، إمَّا سَلْباً وإمَّا إيجَاباً، فما هوَ أَثَرُ كُلِّ وَاحِدٍ فِينَا في الآخَرِينَ؟

هذا سَيِّدُنا أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ، يُعلِنُ إسلامَهُ، ومُبَاشَرَةً يَخرُجُ لِيَنقُلَ الخَيرَ للآخَرِينَ، ويَكُونُ سَبَباً في إسلامِ سِتَّةٍ من العَشَرَةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنَّةِ، وهُم عُثمانُ بنُ عَفَّانَ، وطَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ، والزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ، وسَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ، وعَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، وأبو عُبَيدَةَ بنُ الجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عنهُم، هؤلاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُم كُلُّهُم في صَحِيفَةِ سَيِّدِنا أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فمن هُم في صَحِيفَةِ أعمَالِكَ؟

أنقِذِ الضُّعَفَاءَ:

أيُّها الإخوة الكرام: اِستَغِلُّوا نِعمَةَ اللهِ تعالى عَلَيكُم، وخَاصَّةً في هذهِ الأزمَةِ في إنقَاذِ الضُّعَفَاءِ، وفي قَضَاءِ حَوَائِجِهِم، ولا تُسَوِّلُوا ولا تُسَوِّفُوا، فَرُبَّما أن يَنتَهِيَ الأَجَلُ ويَندَمَ أَحَدُنا ولا يَنفَعُهُ النَّدَمُ.

اِستَغِلُّوا نِعمَةَ اللهِ تعالى عَلَيكُم في إخرَاجِ الزَّكَاةِ والصَّدَقَاتِ وكَفَّاراتِ الأيمَانِ والنُّذُورِ، وذلكَ في إنقَاذِ المُستَضعَفِينَ في هذهِ الأزمَةِ.

اُنظُرُوا إلى الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ عِندَمَا مَرَّ يَوماً فَوَجَدَ بِلالاً رَضِيَ اللهُ عنهُ يُعَذَّبُ من قِبَلِ صِبيَانِ زُعَمَاءِ قُرَيشٍ، حَيثُ كَانُوا يَطُوفُونَ بِهِ في شِعَابِ مَكَّةَ وشَوَارِعِهَا وهُم يُعَذِّبُونَهُ، وهوَ يَقُولُ كَلِمَتَهُ المَشهُورَةَ: أَحَدٌ أَحَدٌ.

فقالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ لأُمَيَّةَ: أَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ؟ حَتَّى مَتَى؟

قَالَ: أَنْتَ الذِي أَفْسَدْتَهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَفْعَلُ، عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى، عَلَى دِينِك، أُعْطِيكَهُ بِهِ.

قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، هُوَ لَكَ.

فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ غُلَامَهُ ذَلِكَ، وَأَخَذَهُ فَأَعْتَقَهُ. سيرة ابن هشام.

أيُّها الإخوة الكرام: كَانَ أبو قُحَافَةَ يُعَاتِبُ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنهُ عِندَمَا كَانَ يُعتِقُ الضُّعَفَاءَ، كما أخرَجَ ابنُ عساكر عن عَامِرِ بنِ عَبدِ الله بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: كَانَ أبو بَكرٍ يُعتِقُ على الإسلامِ بِمَكَّةَ، وكَانَ يُعتِقُ عَجَائِزَ ونِسَاءَ إذا أَسلَمْنَ.

فقالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ، أَرَاك تُعْتِقُ أُنَاساً ضُعَفَاءَ، فَلَوْ أَنَّكَ أَعْتَقْتَ رِجَالاً جَلْداً يَقُومُونَ مَعَكَ، وَيَدْفَعُونَ عَنْكَ، وَيَمْنَعُونَكَ.

فَقَالَ: أَيْ أَبَتِ؛ إنَّمَا أُرِيدُ مَا عِنْدَ اللهِ.

والمُفَسِّرُنَ يَقُولونَ إِنَّ في هذهِ الحَادِثَةِ نَزَلَ قَولُ اللهِ تعالى في أبكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾.

فهل من مُنقِذٍ للضُّعَفَاءِ في هذهِ الأزمَةِ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام:لِنُسَارِعْ في الخَيرَاتِ في هذا الشَّهرِ العَظِيمِ، وليَنظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إلى صَحِيفَةِ عَمَلِهِ ماذا يُسَجِّلُ فِيها؟ ورَحِمَ اللهُ تعالى من قالَ:

إذَا هَبَّتْ رِيَاحُـك فَـاغْتَنِمْهَا   ***   فَـإِنَّ لِـكُـلِّ خَـافِـقَـةٍ سُكُونُ

وَلَا تَغْفُلْ عَن الْإِحْسَانِ فِيهَا   ***   فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَـكُونُ

وَإِنْ دَرَّتْ نِيَاقُـك فَـاحْتَلِبْهَا   ***   فَمَا تَدْرِي الْفَصِيلُ لِمَـنْ يَـكُونُ

اللَّهُمَّ وَفِّقنا لما تُحِبُّهُ وتَرضَاهُ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 4/ رمضان/1435هـ، الموافق:2/تموز / 2014م