5ـ دروس رمضانية 1435هـ: (هما بابان للعبد إلى الجنة)

 

 5ـ دروس رمضانية 1435هـ: (هما بابان للعبد إلى الجنة)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: مُهلَتُنَا في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيا قَصِيرَةٌ جِدَّاً، ومُدَّتُنَا فِيها مَحدُودَةٌ، وآجَالُنَا مُقَدَّرَةٌ، والإنسانُ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيا رَهْنٌ لِعَوَارِضَ تَعُوقُهُ عَنِ العَمَلِ، قال تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾. فَحَرِيٌّ بالعَاقِلِ أن يَغتَنِمَ الفُرَصَ قَبلَ فَوَاتِهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: من أعظَمِ الفُرَصِ لِنَيْلِ سَعَادَةِ الدَّارَينِ وُجُودُ الوَالِدَينِ على قَيْدِ الحَيَاةِ لِيَبَرَّهُما الوَلَدُ، وهُما من أعظَمِ الفُرَصِ لِدُخُولِ الجَنَّةِ، وهُما بَابَانِ للعَبدِ إلى الجَنَّةِ.

الحَسرَةُ كُلُّ الحَسرَةِ على من مَاتَ وَالِدَاهُ ولم يَبَرَّهُما، لأنَّهُ فَاتَتْهُ فُرصَةٌ عَظِيمَةٌ لا يُمكِنُ لَهُ بِأَيِّ حَالٍ أن يُعَوِّضَها لِكَي يَنَالَ رِضَاهُما، ويَدخُلَ الجَنَّةَ بِسَبَبِهِمَا، فإنَّ رِضَا اللهِ تعالى في رِضَا الوَالِدَينِ، وسَخَطَ اللهِ تعالى في سَخَطِهِمَا.

وَصِيَّةُ اللهِ تعالى ورَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالوَالِدَينِ:

أيُّها الإخوة الكرام: من عَظِيمِ مَكَانَةِ الوَالِدَينِ عِندَ اللهِ تعالى، وعُلُوِّ شَأنِهِمَا عِندَهُ جَلَّ شَأنُهُ، وأنَّهُما أَولَى أن يَنَالا العَطفَ والبِرَّ الإحسَانَ، أوصَى اللهُ تعالى، وسَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

وقالَ جَلَّ وعَزَّ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

وقالَ جَلَّ جَلالُهُ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾.

وروى الإمام أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، إِنَّ اللهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ».

وروى الحاكم عَنْ أَبِي سَلَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ، وأُوصِي امْرَأً بِأَبِيهِ، وأُوصِي امْرَأً بِمَوْلَاهُ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ أَذَىً يُؤْذِيهِ». إشَارَةً إلى قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ». رواه الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟

قَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».

ثُمَّ عَادَ؛ فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».

ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ؛ فَقَالَ: «بِرَّ أَبَاكَ».

وروى ابن مَاجه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: «ارْجِعْ فَبِرَّهَا».

ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبِرَّهَا».  

ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «وَيْحَكَ الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّة».

الوَالِدَانِ أوسَطُ أبوَابِ الجَنَّةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: من عِظَمِ مَكَانَةِ الوَالِدَينِ، وَوُجُوبِ بِرِّهِمَا والإحسَانِ إلَيهِمَا، أن جَعَلَهُمَا اللهُ تعالى أوسَطَ أبوَابِ الجَنَّةِ، فَليُحَافِظِ العَبدُ على ذلكَ البَابِ بالبِرِّ، أو فَليُضَيِّعْهُ بالعُقُوقِ.

روى الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ لِيَ امْرَأَةً، وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا.

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَو احْفَظْهُ».

وجاءَ عِندَ الإمام أحمد والحاكم عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «الْوَالِدَةَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَأَضِعْ ذَلِكَ أَو احْفَظْهُ».

أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا مَاتَتْ أُمُّ إيَاسِ بنِ مُعَاوِيَةَ المُزَنِيِّ، القَاضِي المَشهُورِ، بَكَى، فَقِيلَ: ما يُبكِيكَ؟

قالَ: كَانَ لي بَابَانِ مَفتُوحَانِ إلى الجَنَّةِ، وأُغلِقَ أحَدُهُمَا.

لا يُؤَدِّي الوَلَدُ حَقَّ أُمِّهِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الوَلَدَ مَهمَا عَمِلَ من البِرِّ والإحسَانِ، ومَهمَا قَدَّمَ لِوَالِدَتِهِ من النَّفَقَةِ والخِدمَةِ، ومَهمَا فَعَلَ لَها من الخَيرِ، فإنَّهُ لن يُؤَدِّيَها حَقَّها، ولو بِزَفرَةٍ وَاحِدَةٍ مِن طَلْقِهَا ومَخَاضِهَا.

روى الإمام البخاري في الأدَبِ المُفرَدِ عن سَعِيدِ بن أبي بُردَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: سَمِعتُ أَبِي يُحَدِّثُ، أَنَّهُ شَهِدَ ابنَ عُمَرَ ورَجُلاً يَمَانِيَّاً يَطُوفُ بالبَيتِ، حَمَلَ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهرِهِ؛ يَقُولُ:

إِنِّي لها بَعِيرُهَا المُذَلَّلُ   ***   إنْ أُذعِرَتْ رِكَابُهَا لم أُذعَرْ

ثمَّ قالَ: يا ابنَ عُمَرَ، أَتُرَانِي جَزَيتُهَا؟

قالَ: لا، ولا بِزَفرَةٍ وَاحِدَةٍ.

وروى البَزَّارُ أنَ رَجُلاً كَانَ في الطَّوَافِ حَامِلاً أُمَّهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: هَل أَدَّيتُ حَقَّهَا؟

قال: «لا، ولا بِرَكَّةٍ وَاحِدَةٍ».

أدَاءُ حَقِّ الوَالِدِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إذا كَانَ العَبدُ لا يَستَطِيعُ أن يُؤَدِّيَ أُمَّهُ حَقَّهَا، فكذلكَ لا يَستَطِيعُ أن يُؤَدِّيَ حَقَّ أبِيهِ، إلا إذا وَجَدَهُ مَمْلُوكَاً، فاشتَرَاهُ، فأعتَقَهُ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً، فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام:اِغتَنِمُوا نِعمَةَ وُجُودِ الوَالِدَينِ في الحَيَاةِ الدُّنيا بِبِرِّهِمَا، ولا تَنسَوا فَضْلَهُما، وتَذَكَّرُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾. وخَاصَّةً ونَحنُ نَعِيشُ شَهرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ، وتَذَكَّرُوا أخِيراً حَدِيثَ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رواه الحاكم عن كَعبِ بنِ عجرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اُحضُرُوا المنبَرَ».

فَحَضَرنَا، فَلَمَّا ارتَقَى دَرَجَةً قالَ: «آمين».

فَلَمَّا ارتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّانِيَةَ قالَ: «آمين».

فَلَمَّا ارتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ قالَ: «آمين».

فَلَمَّا نَزَلَ قُلنَا: يا رَسُولَ اللهِ، لقد سَمِعنَا مِنكَ اليَومَ شَيئاً ما كُنَّا نَسمَعُهُ.

قالَ: «إنَّ جِبرِيلَ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عُرِضَ لي فقالَ: بُعدَاً لمن أَدرَكَ رَمَضَانَ فَلم يُغفَرْ لَهُ.

قُلتُ: آمين.

فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّانِيَةَ قالَ: بُعدَاً لمن ذُكِرتُ عِندَهُ فَلَم يُصَلِّ عَلَيكَ.

قُلتُ: آمين.

فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّالِثَةَ قالَ: بُعدَاً لمن أَدرَكَ أَبَوَاهُ الكِبَرَ عِندَهُ أو أَحَدُهُمَا فَلَم يُدخِلاهُ الجَنَّةَ.

قُلتُ: آمين».

اللَّهُمَّ وَفِّقنا لِبِرِّهِمَا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 5/ رمضان/1435هـ، الموافق:3/تموز / 2014م