11ـ دروس رمضانية 1435هـ: (أمنيات الموتى الفاسقين)

 

 11ـ دروس رمضانية 1435هـ: (أمنيات الموتى الفاسقين)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: ما من أَحَدٍ إلا ولَهُ أُمنِيَاتٌ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيا يَطمَحُ إلَيهَا، وهذهِ الأُمنِيَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ، تَختَلِفُ من إنسَانٍ لآخَرَ، فالفَقِيرُ يُرِيدُ الغِنَى، والمَرِيضُ يُرِيدُ الصِّحَّةَ، والمَسُودُ يُرِيدُ السِّيَادَةَ، والغَنِيُّ يُرِيدُ زِيَادَةَ الغِنَى، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عن ابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِياً مَلْئاً مِنْ ذَهَبٍ، أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِياً، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِياً، أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثاً، وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ». والسَّيِّدُ يُرِيدُ البَقَاءَ على سِيَادَتِهِ ..... وهكذا، وكُلُّ وَاحِدٍ من هؤلاءِ يَبذُلُ ما يَستَطِيعُ بَذْلَهُ لِتَحقِيقِ أَمَانِيهِ وأحلامِهِ، ولكن الجَمِيعُ مُندَرِجٌ تَحتَ قَولِهِ تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً﴾. فَمِنهُم من يُحَقِّقُ لَهُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ أَمَانِيهِ وأحلامَهُ، ومِنهُم من يُحَقِّقُ لَهُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ بَعضَهَا، ومِنهُم من لا يُحَقِّقُ لَهُ شَيئاً مِنهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: هُنَاكَ شَرِيحَةٌ من العِبَادِ لا تَتَحَقَّقُ أَمَانِيهِم ورَغَبَاتُهُم أبَدَاً، ولا يُنظَرُ فِيها مُطلَقَاً، ولا يُمكِنُ لأَحَدٍ أن يُسَاعِدَهُم فِيها، هذهِ الشَّرِيحَةُ هيَ المَوتَى، الذينَ صَارُوا رَهِينَةً لأعمَالِهِم.

هذهِ الشَّرِيحَةُ من النَّاسِ صَارَ بَصَرُهُم حَدِيداً، وأصبَحَ عَالَمُ الغَيبِ لَهُم عَالَمَ شَهَادَةٍ، شَاهَدُوا الجَنَّةَ والنَّارَ، وأَيقَنُوا وهُم في عَالَمِ البَرزَخِ أنَّهُم سَيُبعَثُونَ لِيَومٍ عَظِيمٍ، يَومٍ يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ.

أُمنِيَاتُ المَوتَى الفَاسِقِينَ:

أيُّها الإخوة الكرام: من ضَيَّعَ أنفَاسَ عُمُرِهِ بِدُنِ فَائِدَةٍ، ومن ضَيَّعَ شَبَابَهُ في الغَفلَةِ والإعرَاضِ عن اللهِ تعالى، ومن ضَيَّعَ مَالَهُ في مَعصِيَةِ اللهِ تعالى، ومن ضَيَّعَ رِيَاسَتَهُ وسِيَادَتَهُ في ظُلمِ العِبَادِ، ومن ضَيَّعَ قُوَّتَهُ في إذلالِ الآخَرِينَ، ومن ضَيَّعَ دُنيَاهُ في إشعَالِ نَارِ الفِتَنِ، ومن ضَيَّعَ دُنيَاهُ في إضَاعَةِ الصَّلاةِ واتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، إذا مَاتَ على هذهِ الحَالَةِ فإنَّهُ سَيَتَمَنَّى أَمَانِيَ لا تُغنِيهِ شَيئاً، من جُملَةِ أَمَانِيهِ:

أولاً: صَلاةُ رَكعَتَينِ:

سَوفَ يَتَمَنَّى هذا العَبدُ لو رَجَعَ إلى الدُّنيا لِيُصَلِّيَ رَكعَتَينِ فَقَط، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ فَقَالَ: «مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟».

فَقَالُوا: فُلانٌ.

فَقَالَ: «رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ».

وفي رِوَايَةٍ لابنِ أبي شَيبَةَ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَكعَتَانِ خَفِيفَتَانِ مِمَّا تَحقِرُونَ زَادُ هذا، هُمَا أَحَبُّ إِلَيهِ من بَقِيَّةِ دُنيَاكُم».

أُمنِيَةُ هذا العَبدِ وهوَ في قَبرِهِ أن يُصَلِّيَ رَكعَتَينِ للهِ عزَّ وجلَّ فَقَط، فهل نَغتَنِمُ فُرصَةَ هذهِ الحَيَاةِ في المُحَافَظَةِ على الصَّلَوَاتِ والإكثَارِ من النَّوَافِلِ؟ لأنَّهُ لا يَعلَمُ أَجْرَ المُصَلِّي إلا اللهُ تعالى، فمن خَرَجَ من الدُّنيا عَرَفَ أَجْرَ الصَّلاةِ، لذلكَ يَتَحَسَّرُ ويَتَمَنَّى أن يَرجِعَ لِكَي يُصَلِّيَ رَكعَتَينِ، فَلنَغتَنِمْ فُرصَةَ الحَيَاةِ بِكَثْرَةِ النَّوَافِلِ وخَاصَّةً ونَحنُ في شَهرِ رَمَضَانَ، لِنُحَافِظْ على صَلاةِ قِيَامِ اللَّيلِ والتَّرَاوِيحِ وسَائِرِ النَّوَافِلِ.

ثانياً: صَدَقَةٌ يَتَقَرَّبُ بِها إلى اللهِ تعالى:

سَوفَ يَتَمَنَّى هذا العَبدُ أن يَرجِعَ إلى الدُّنيا ولو لِلَحَظَاتٍ حتَّى يُقَدِّمَ صَدَقَةً للهِ عزَّ وجلَّ يَنتَفِعُ بِها يَومَ يَلقَاهُ، قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

لقد عَايَنَ هذا العَبدُ وهوَ في سَكَرَاتِ المَوتِ فَضْلَ الصَّدَقَةِ، أَنَّها تُطفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، وأَيقَنَ حَدِيثَ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى شَيْئاً قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَن اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» رواه الإمام البخاري عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

وأَيقَنَ بأنَّ الصَّدَقَةَ من أَفضَلِ الأعمَالِ، كما قالَ سَيِّدُنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ذُكِرَ لِيَ أنَّ الأعمَالَ تَتَبَاهَى فَتَقُولُ الصَّدَقَةُ: أنا أَفضَلُكُم. رواه الحاكم.

أُمنِيَةُ العَبدِ عِندَما يَقَعُ في سِيَاقِ المَوتِ أن يَتَصَدَّقَ، فهل نَغتَنِمُ نِعمَةَ المَالِ في الصَّدَقةِ والتَّقَرُّبِ إلى اللهِ تعالى؟

ثالثاً: عَمَلٌ صَالِحٌ فِيما تَرَكَ:

سَوفَ يَتَمَنَّى هذا العَبدُ أن يَرجِعَ إلى الدُّنيا لِيَكُونَ من الصَّالِحِينَ لِيُصلِحَ ما أفسَدَ، ولِيُطِعْ في كُلِّ ما عَصَى، ولِيَشكُرِ اللهَ تعالى على كُلِّ نِعمَةٍ أَسبَغَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَيهِ، ولكن هَيهَاتَ، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. وقال تعالى مُخبِرَاً عن هذا العَبدِ: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

أُمنِيَةُ هذا العَبدِ بَعدَ أن هَجَمَت عَلَيهِ مَنِيَّتُهُ، وأَحَاطَت بِهِ خَطِيئَتُهُ، وانكَشَفَ لَهُ الغِطَاءُ، أن يَرجِعَ إلى الدُّنيا لَعَلَّهُ يَعمَلُ صَالِحَاً فِيما تَرَكَ من نِعَمٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، لَعَلَّهُ يَعمَلُ صَالِحَاً في مَالِهِ، في بَيتِهِ، في وَظِيفَتِهِ، في سِيَادَتِهِ ورِيَادَتِهِ، هذهِ هيَ أُمنِيَتُهُ الوَحِيدَةُ، ولكن هَيهَاتَ هَيهَاتَ.

فهل نَستَغِلُّ أوقَاتَنَا في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيا في العَمَلِ الصَّالِحِ؟

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: بالمَوتِ تَنتَهِي فُرصَةُ الحَيَاةِ، بالمَوتِ يَعرِفُ الإنسَانُ قَدْرَ الوَقتِ الذي لا يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، بالمَوتِ يَعرِفُ الإنسَانُ أنَّ الحَيَاةَ كَانَت من أعظَمِ النِّعَمِ، ولكنَّهُ لم يَستَغِلَّ نِعمَةَ الحَيَاةِ في الحَسَنَاتِ التي تُثَقِّلُ مِيزَانَهُ، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.

هل هُنَاكَ حَسرَةٌ أعظَمُ من هذهِ الحَسرَةِ؟ هل هُنَاكَ نَدَامَةٌ أعظَمُ من هذهِ النَّدَامَةِ؟

أيُّها الإخوة الكرام: اِغتَنِمُوا نِعمَةَ الحَيَاةِ الدُّنيا بالطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ، واجعَلُوها مَطِيَّةً للآخِرَةِ ولن تَندَمُوا، وإلا فالعَبدُ سَيَندَمُ ولن يَنفَعَهُ النَّدَمُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لما تُحِبُّهُ تَرضَاهُ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 11/ رمضان/1435هـ، الموافق: 9/تموز / 2014م