13ـ دروس رمضانية 1435هـ: (لا تضيق على نفسك باب التوبة)

 

 13ـ دروس رمضانية 1435هـ: (لا تضيق على نفسك باب التوبة)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: من مَاتَ انتَهَت فُرصَةُ حَيَاتِهِ، عَايَنَ الآخِرَةَ وصَارَت عَالَمَ شَهَادَةٍ لَهُ، وأدرَكَ أنَّهُ ضَيَّعَ أنفَاسَ عُمُرِهِ بِدُونِ نَفْعٍ لَهُ في آخِرَتِهِ، وأدرَكَ أنَّهُ كَانَ في نِعمَةٍ ما عَرَفَ قَدْرَهَا، وأصبَحَ يَتَمَنَّى أن يَعمَلَ حَسَنَةً لَعَلَّهَا تُثقِلُ مِيزَانَهُ، وتُرضِي رَبَّهُ عزَّ جلَّ، ولكنَّهُ لا يَستَطِيعُ.

أيُّها الإخوة الكرام: من مَاتَ فإنَّهُ سَيُوَسَّدُ في قَبرِهِ وَحِيداً، ولن يَكُونَ للحَيَاةِ عَائِداً، ولا في حَسَنَاتِهِ زَائِداً، فهل من مُستَغِلٍّ لِحَيَاتِهِ الدُّنيا قَبلَ أن يَعَضَّ على يَدَيهِ من النَّدَمِ؟ وهل من مُقَدِّمٍ لِنَفسِهِ عَمَلاً صَالِحاً يَلقَى ثَوَابَهُ بَعدَ مَوتِهِ؟ وهل من عَامِلٍ لِيَومِ القِيَامَةِ قَبلَ الحَسرَةِ والنَّدَامَةِ؟

أيُّها الإخوة الكرام: من سَوَّلَت لَهُ نَفسُهُ المَعصِيَةَ فَليَذْكُرْ أُمنِيَةَ من خَرَجَ من الدُّنيا، حَيثُ يَقُولُ أَحَدُهُم: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. ويَقُولُ الآخَرُ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. ويَقُولُ الآخَرُ: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾. ويَقُولُ الآخَرُ: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾. ويَقُولُ الآخَرُ: ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾. ويَقُولُ الآخَرُ: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾. ويَقُولُ الآخَرُ: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾. ويَقُولُ الآخَرُ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ﴾. ويَقُولُ الآخَرُ: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾.

اِغتَنِمْ فُرصَةَ حَيَاتِكَ بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: شَأنُ العُقَلاءِ اغتِنَامُ فُرصَةِ الحَيَاةِ بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ، لأنَّ سَيِّدَنَا آدَمَ وأُمَّنَا حَوَّاءَ فَعَلا ذلكَ فَقَالَا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. وسَيِّدَنَا إبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلامُ فَعَلَ ذلكَ فَقَالَ: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾. وسَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ فَعَلَ ذلكَ حِينَ قَالَ: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَغتَنِمْ فُرصَةَ الحَيَاةِ بالتَّوبَةِ قَبلَ أن نَقَعَ في سِيَاقِ المَوتِ، لأنَّ التَّوبَةَ عِندَهَا لا تَنفَعُ، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾. ويَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» رواه الحاكم والإمام أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

ويَقُولُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: قَد دَعَا اللهُ إلى مَغفِرَتِهِ من زَعَمَ أنَّ المَسِيحَ هوَ اللهُ، ومن زَعَمَ أنَّ المَسِيحَ هوَ ابنُ اللهِ، ومن زَعَمَ أنَّ عُزَيراً ابنُ اللهِ، ومن زَعَمَ أنَّ اللهَ فَقِيرٌ، ومن زَعَمَ أنَّ يَدَ اللهِ مَغلُولَةٌ، ومن زَعَمَ أنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ، يَقُولُ اللهُ تعالى لهؤلاءِ: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. ثمَّ دَعَا إلى تَوبَتِهِ مَن هوَ أَعظَمُ قَولاً من هؤلاءِ، مَن قَالَ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾. وقَالَ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾.

قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: من آيَسَ عِبَادَ اللهِ من التَّوبَةِ بَعدَ هذا فَقَد جَحَدَ كِتَابَ اللهِ، ولكن لا يَقدِرُ العَبدُ أن يَتُوبَ حتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيهِ.

اللهُ يَنَادِينَا:

أيُّها الإخوة الكرام: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ يُنَادِينَا ونَحنُ في الحَيَاةِ الدُّنيا فَيَقُولُ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. ويَقُولُ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الذي رواه الإمام أحمد والحاكم عن أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا أَوْ أَزِيدُ، وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَغْفِرُ، وَلَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا مَا لَمْ تُشْرِكْ بِي لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».

أيُّها الإخوة الكرام: من لم يَغتَنِمْ فُرصَةَ الحَيَاةِ بالتَّوبَةِ والإنَابَةِ والاستِغفَارِ فإنَّ المَصِيرَ إلى النَّارِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَرحَمْ أنفُسَنَا، لقد جَرَّبنَا أنفُسَنَا في مَصَائِبِ الدُّنيا فما احتَمَلنَاها، لقد ضَاقَت صُدُورُنَا في هذهِ الأزمَةِ وفي هذهِ الشِّدَّةِ، فَكَيفَ إذا كَانَ العَبدُ بَينَ أطبَاقِ النَّارِ التي يُحَطِّمُ بَعضُها بَعضاً، ولا يَسمَعُ فِيها إلا تَغَيُّظاً وزَفِيراً، وكُلَّما نَضِجَ جِلدُهُ بَدَّلَهُ اللهُ جِلداً غَيرَهُ لِيَذُوقَ العَذَابَ ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾.

لا تُضَيِّقْ على نَفسِكَ بَابَ التَّوبَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: بَابُ التَّوبَةِ وَاسِعٌ، وإنَّ اللهَ يَبسُطُ يَدَهُ في اللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبسُطُ يَدَهُ في النَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيئُ اللَّيلِ، فلا تُضَيِّقُوا بَابَ التَّوبَةِ بإرَاقَةِ دَمٍ مَعصُومٍ، روى الإمام البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً».

وروى الإمام أحمد والحاكم عن مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلَّا الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِراً، أَو الرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً».

بَابُ التَّوبَةِ مَفتُوحٌ:

أيُّها الإخوة الكرام: بَابُ التَّوبَةِ مَفتُوحٌ ما دَامَت أروَاحُنَا في أجسَادِنَا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

يا مَن أسرَفَ على نَفسِهِ بأيِّ ذَنبٍ كَانَ، اُدخُلْ بَابَ التَّوبَةِ قَبلَ أن تَخرُجَ رُوحُكَ من جَسَدِكَ، وأنتَ مُستَحضِرٌ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

يا أَيُّهَا الحَاكِمُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا المَحكُومُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا المَوَظَّفُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا التَّاجِرُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا المُستَأجِرُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا المُؤَجِّرُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا الطَّبِيبُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا الطَّالِبُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا الوَلَدُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا الوَالِدُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا الشَّابُّ، تُبْ إلى اللهِ تعالى، يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأعمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، فَطُوبَى لِعَبدٍ مَاتَ على تَوبَةٍ، روى الطَّبَرَانِيُّ في الأوسَطِ عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الُمؤمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ، فَسَعِيدٌ من هَلَكَ على رَقعِهِ». أيْ: مُذنِبٌ تَائِبٌ.

وروى الحاكم والإمام أحمد والترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».

أيُّها الإخوة الكرام: لِنُتبِعِ السَّيِّئَةَ بالحَسَنَةِ، لأنَّ هذا من وَصْفِ المُؤمِنِينَ، قال تعالى: ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

اللَّهُمَّ ارزُقنَا تَوبَةً صَادِقَةً قَبلَ المَوتِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 13/ رمضان/1435هـ، الموافق: 11/تموز / 2014م