15ـ دروس رمضانية 1435هـ: (إياك والجليس السيئ)

 

 15ـ دروس رمضانية 1435هـ: (إياك والجليس السيئ)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: من رَحمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ فِينَا أنَّهُ أعطَانَا صُوَراً حَيَّةً عن بَعضِ مَشَاهِدِ يَومِ القِيَامَةِ، من أَجلِ الاعتِبَارِ والتَّوبَةِ، وحتَّى لا نَندَمَ ولا نَتَأَسَّفَ حِينَ لا يَنفَعُ نَدَمٌ ولا تَأَسُّفٌ.

من هذهِ الصُّوَرِ ما جَاءَ في سُورَةِ الصَّافَّاتِ عن أصحَابِ الجَنَّةِ، قال تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: عِبَادُ اللهِ المُخلَصُونَ يُنَعَّمُونَ في الجَنَّةِ بما لا عَينٌ رَأَت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ، ومن جُملَةِ النَّعِيمِ سَمَرٌ هَادِئٌ، يَتَذَاكَرُونَ فِيهِ المَاضِيَ والحَاضِرَ، وذلكَ في مُقَابِلِ التَّخَاصُمِ والتَّلاحِي الذي يَقَعُ بَينَ المُجرِمِينَ.

وَاحِدٌ من هؤلاءِ المُخلَصِينَ يَقُصُّ على إخوَانِهِ طَرَفاً مِمَّا حَصَلَ مَعَهُ: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾؟ لقد كَانَ صَاحِبُهُ مُكَذِّباً باليَومِ الآخِرِ، وكَانَ يَسأَلُ صَاحِبَهُ: هل هوَ من المُصَدَِّقِينَ بِيَومِ البَعثِ والنُّشُورِ؟ وهل سَيُحَاسَبُ بَعدَ أنْ صَارَ تُرَاباً؟

فقالَ هذا المُخلَصُ لإخوَانِهِ: ﴿هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾. فَيَرَاهُ في وَسَطِ الجَحِيمِ، فَيَقُولُ لَهُ: ﴿تاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾. لقد كِدتَ أن تُورِدَنِي مَوَارِدَ الهَلاكِ والبَوَارِ بِوَسْوَسَتِكَ، لولا أنَّ اللهَ قد أنعَمَ عَلَيَّ، فَعَصَمَنِي من الاستِمَاعِ إلَيكَ، وإلا لَكُنتُ من الذينَ يُسَاقُونَ إلى هذا المَوقِفِ الكَرِيهِ.

ثمَّ يَقُولُ لإخوَانِهِ وهُم يَستَشعِرُونَ هذهِ النِّعمَةَ العَظِيمَةَ: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

هُنَا يَأتِي التَّوجِيهُ لأصحَابِ العُقُولِ السَّلِيمَةِ: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾. اِعمَلْ لهذا النَّعِيمِ الذي لا يُدرِكُهُ فَوتٌ، ولا يُخشَى عَلَيهِ من نَفَادٍ، ولا يَعقِبُهُ مَوتٌ، ولا يَتَهَدَّدُهُ العَذَابُ.

إيَّاكَ والجَلِيسَ السَّيِّئَ:

أيُّها الإخوة الكرام: اِحذَرُوا الجَلِيسَ السَّيِّئَ، لأنَّ رَبَّنَا عزَّ وجلَّ يَقُولُ عن الجُلَسَاءِ: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾.

قَالَ أَحَدُ الوُعَّاظِ: إيَّاكَ والجَلِيسَ السَّيِّئَ، ولو زَعَمتَ أنَّكَ تَهدِيهِ فإنَّهُ يَضُرُّكَ، لأنَّ الجَربَاءَ تُعدِي الصَّحِيحَةَ، ولا تُعدِي الصَّحِيحَةُ الجَربَاءَ، وهل سَمِعتُم أنَّ صَحِيحَةً حَوَّلَتِ الجَربَاءَ إلى صَحِيحَةٍ؟ لكنَّ الجَربَاءَ هيَ التي حَوَّلَتْهَا إلى الجَرَبِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لِيَحذَرْ شَبَابُنَا اليَومَ وشَابَّاتُنَا من الاختِلاطِ بالنَّاسِ، إلا إذا كَانُوا على قِدَمٍ في الصَّلاحِ والعِلمِ والإصلاحِ.

روى الشيخان عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ».

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟

فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا واللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ».

فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾. وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: كم ضَلَّ من ضَلَّ بِسَبَبِ قَرِينٍ فَاسِدٍ؟ وكم أنقَذَ اللهُ تعالى بِقَرِينٍ صَالِحٍ مَن كَانَ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فأَنقَذَهُ اللهُ تعالى بِهِ من النَّارِ؟

ولهذا لمَّا كَانَ للصَّاحِبِ أَثَرٌ بَالِغٌ على صَاحِبِهِ، نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عن صُحبَةِ غَيرِ المُؤمِنِينَ، فقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِناً، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» رواه أبو داود والترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: من أعظَمِ أسبَابِ تَقوِيَةِ الإيمَانِ الصُّحبَةُ الصَّالِحَةُ، قُلْ لي: مَن تُصَاحِبُ؟ أَقُل لَكَ: مَن أنتَ.

ومن أسبَابِ حُسنِ الخَاتِمَةِ الصُّحبَةُ الصَّالِحَةُ، فقد وَفَّقَ اللهُ تعالى القَاتِلَ مِئَةَ نَفسٍ إلى حُسنِ الخَاتِمَةِ، وذلكَ عِندَمَا تَوَجَّهَ إلى صُحبَةِ الصَّالِحِينَ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: لَا؛ فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً.

ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ.

فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللهَ، فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.

فَانْطَلَقَ، حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ.

فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِباً مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ.

وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ.

فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ.

فَقَاسُوهُ، فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ».

اللَّهُمَّ دُلَّنَا على من يَدُلُّنَا عَلَيكَ، وأوصِلنَا بالذي يُوصِلُنَا إلَيكَ، وعَرِّفنَا على من يُعَرِّفُنَا عَلَيكَ، وهَيِّئ لَنَا صُحبَةً صَالِحَةً. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 15/ رمضان/1435هـ، الموافق: 13/تموز / 2014م