17ـ دروس رمضانية 1435هـ: (ذكر يوم القيامة سعادة وطمأنينة)

 

 17ـ دروس رمضانية 1435هـ: (ذكر يوم القيامة سعادة وطمأنينة)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ من أقبَحِ القَبَائِحِ، وأرذَلِ الأخلاقِ، أن يَكُونَ الإنسَانُ قُدوَةً في الشَّرِّ، ودَاعِيَاً وهَادِيَاً إلَيهِ، فمن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً في بَيتِهِ، أو في بَلدَتِهِ، أو بَينَ إخوَانِهِ وأَحِبَّائِهِ، فإنَّهُ يَتَحَمَّلُ وِزْرَهُ وَوِزْرَ من تَبِعَهُ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِن الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِن الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً».

وروى الشيخان عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ ـ وَهِيَ الْأَمْعَاءُ ـ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ». أيْ: شَرَعَ لِبَاقِي قُرَيْش أَنْ يَتْرُكُوا النُّوق وَيَعْتِقُوهَا مِن الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْأَصْنَامِ.

وروى الشيخان عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَقَالَ: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ». أيْ: التَّابِعِينَ.

وروى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْماً إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، ـ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ دَمِهَا ـ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلاً». مَعنَى كِفلٌ: هوَ الْجُزْءُ وَالنَّصِيبُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ الضِّعْفُ.

ذِكْرُ يَومِ القِيَامَةِ سَعَادَةٌ وطُمَأنِينَةٌ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الوُقُوفَ على بَعضِ المَشَاهِدِ من يَومِ القِيَامَةِ يُوقِظُ النُّفُوسَ، ويَدفَعُهَا إلى فِعلِ الخَيرِ، ويَكُفُّهَا عن فِعلِ الشَّرِّ، لأنَّ النُّفُوسَ الأمَّارَةَ بالسُّوءِ ما تَحَكَّمَت بأصحَابِهَا إلا بِسَبَبِ غَفلَتِهَا عن اللهِ تعالى وعن اليَومِ الآخِرِ.

أيُّها الإخوة الكرام: ذِكْرُ يَومِ القِيَامَةِ في الحَيَاةِ الدُّنيا سَعَادَةٌ وطُمَأنِينَةٌ، وسَدٌّ مَنِيعٌ دُونَ المَعَاصِي والمُنكَرَاتِ، ويُطَهِّرُ القُلُوبَ من الحِقدِ والحَسَدِ، ويُسَلِّي أهلَ الطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ، ويُهَدِّدُ الظَّلَمَةَ لأنفُسِهِم لِيَرْعَوُوا، لأنَّهُ سَيَأخُذُ كُلٌّ حَقَّهُ لا مَحَالَةَ، حتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلحَاءِ من الشَّاةِ القَرنَاءِ، فلا ظُلمَ ولا هَضْمَ لِحَقٍّ من الحُقُوقِ.

من مَشَاهِدِ يَومِ القِيَامَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: من مَشَاهِدِ يَومِ القِيَامَةِ قَولُ اللهِ تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾.

يَومَ القِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ فِيهِ الأسيَادُ والكُبَرَاءُ من الأتبَاعِ، ويَتَلاعَنُونَ فِيمَا بَينَهُم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيَّاً وَلَا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: هذا هوَ حَالُ الأخِلَّاءِ غَيرِ المُتَّقِينَ، لقد انقَلَبَت خِلَّتُهُم إلى عَدَاوَاتٍ بَينَ بَعضِهِمُ البَعضِ، المَتبُوعُ يَتَبَرَّأُ من التَّابِعِ، كما تَبَرَّأَ إبلِيسُ من تَابِعِيهِ، ويَلعَنُ المَسُودُ سَادَاتَهُ وكَبَرَاءَهُ الذينَ أَضلُّوهُ السَّبِيلَ، ولكنْ كُلُّ هذا لم يُغنِ عَنهُ من اللهِ شَيئاً.

أيُّها الإخوة الكرام: نَحنُ اليَومَ نَعِيشُ في أزمَاتٍ شَدِيدَةٍ، من هذهِ الأزَمَاتِ أزمَةُ القُدْوَاتِ، أكثَرُ المَتبُوعِينَ سَرَابٌ بِقِيعَةٌ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً، حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً.

ماذا حَصَّلَ شَبَابُنَا وشَابَّاتُنَا من مَتبُوعِيهِمُ اليَومَ، لقد ضَاعَتِ القِيَمُ والأخلاقُ، إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى، لقد تَخَنَّثَ بَعضُ الشَّبَابِ، وتَرَجَّلَت بَعضُ الشَّابَّاتِ، ولم يَجِدُوا خَيراً في نِهَايَةِ المَطَافِ في حَيَاتِهِمُ الدُّنيا، وإن مَاتُوا على ذلكَ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى فلن يَجِدُوا خَيراً يَومَ القِيَامَةِ، بل سَيَتَبَرَّأُ بَعضُهُم من بَعضٍ، ويَلعَنُ بَعضُهُم بَعضاً.

اِحذَرْ قَاطِعَ الطَّرِيقِ بَينَكَ وبَينَ اللهِ تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أن يَحذَرَ من قَاطِعِ الطَّرِيقِ بَينَ العَبدِ ورَبِّهِ، لأنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ لا يُرِيدُ لَكَ الهِدَايَةَ، بل يُرِيدُ لَكَ الغِوَايَةَ، ورَحِمَ اللهُ تعالى القَائِلَ:

فَلا تَصحَبْ أَخا الجَهلِ   ***   وَإِيَّـاكَ وَإِيَّـــــاهُ

فَكَم مِن جَـاهِـلٍ أَردَى   ***   حَليماً حِينَ آخــَاهُ

يُــقــاسُ المَـرءُ بِـالمَـرءِ   ***   إذا ما المَرءُ مَــاشَاهُ

كَـحَـذو الـنَّعلِ بِالنَّعلِ   ***   إِذا ما النَّعلُ حَـاذَاهُ

وَلِلـشَّيءِ مِـنَ الـــشَّيء   ***   مَـقـاييِسُ وَأَشْـبَـاهُ

وَلِلـقَلـبِ عَـلى الـقَلبِ   ***   دَلـيلٌ حِـينَ يَـلـقَاهُ

﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾:

أيُّها الإخوة الكرام: شَأنُ العَاقِلِ أن يَتَّعِظَ بالقُرآنِ العَظِيمِ، ورَبُّنَا عزَّ وجلَّ يُعطِينَا صُورَةً عن خَلِيلٍ مَاكرٍ فَاسِقٍ فَاجِرٍ قَاطِعٍ للطَّرِيقِ كَيفَ أَثَّرَ بِجَلِيسِهِ، ونَدِمَ هذا الجَلِيسُ، ولكن كَانَ نَدَمُهُ في يَومٍ لا يَنفَعُ فِيهِ النَّدَمُ، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾.

جَاءَ في جَامِعِ الأُصُولِ من أَحَادِيثِ الرَّسُولِ: عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: صَنَعَ عُقْبَةُ بنُ أَبي مُعَيطٍ طَعَامَاً، فَدَعَا أَشْرَافَ قُرَيْشٍ ـ وكَانَ فِيهِم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ فَامتَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنْ يَطْعَمَ، أو يَشْهَدَ عُقْبَةُ شَهَادَةَ التَّوحِيدِ، فَفَعَلَ.

فَأَتَاهُ أُبَيٌّ ـ وكَانَ خَلِيلَهُ ـ فَقَالَ: أَصَبَأْتَ؟

قَالَ: لا، ولكن اسْتَحْيَيْتُ أن يَخرُجَ من مَنزِلِي، أو يَطْعَمَ من طَعَامِي.

فَقَالَ: ما كُنتُ أَرضَى، أو تَبْصُقَ في وَجْهِهِ، فَفَعَلَ عُقْبَةُ، وقُتِلَ يَومَ بَدْرٍ صَبْرَاً كَافِرَاً. الصَّبْرُ: نَصْبُ الإنسَانِ للقَتْلِ.

وجَاءَ في سِيرَةِ ابنِ هِشَامٍ أنَّ أُبَيَّاً أَتَى عُقْبَةَ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكَ جَالَسْتَ مُحَمَّداً وَسَمِعْتَ مِنْهُ، وَجْهِي مِنْ وَجْهِك حَرَامٌ أَنْ أُكَلِّمَك ـ وَاسْتَغْلَظَ مِن الْيَمِينِ ـ إنْ أَنْتَ جَلَسْتَ إلَيْهِ، أَوْ سَمِعْتَ مِنْهُ، أَوْ لَمْ تَأْتِهِ فَتَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ.

فَفَعَلَ ذَلِكَ عَدُوُّ اللهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ ـ لَعَنَهُ اللهُ ـ

فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: حَسْرَةُ جُلَسَاءِ أَهلِ السُّوءِ حَسْرَةٌ عَظِيمَةٌ يَومَ القِيَامَةِ، كما هيَ حَسْرَةٌ عَظِيمَةٌ في الحَيَاةِ الدُّنيا، عَرَفَ ذلكَ من عَرَفَ، وجَهِلَهَا من جَهِلَهَا، والسَّعِيدُ من كَانَ قُدوَةً في الأعمَالِ الصَّالِحَاتِ، والشَّقِيُّ من كَانَ قُدوَةً في الأعمَالِ الطَّالِحَاتِ، حَيثُ يَحمِلُ أوزَارَهُ وأوزَارَاً مَعَ أوزَارِهِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لما يُرضِيكَ عَنَّا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 17/ رمضان/1435هـ، الموافق: 15/تموز / 2014م