26ـ دروس رمضانية 1435هـ: (ليلة مباركة كثر خيرها)

 

 26ـ دروس رمضانية 1435هـ: (ليلة مباركة كثر خيرها)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: اِغتَنِمُوا ما بَقِيَ من شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ بما يُقَرِّبُكُم إلى اللهِ تعالى، واحذَرُوا من التَّفرِيطِ وإِضَاعَةِ الفُرَصِ، لأنَّ من فَرَّطَ وأَضَاعَ الفُرصَةَ فَسَيندَمُ.

أيُّها الإخوة الكرام: من لم يَربَحْ فيما بَقِيَ في هذا الشَّهرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، فَفِي أَيِّ زَمَانٍ سَيَربَحُ؟ ومن لم يَتُبْ إلى اللهِ تعالى في هذهِ الأَيَّامِ، فَمَتَى سَيَتُوبُ؟ ومن لم يُصلِحْ نَفسَهُ ويَصطَلِحْ مَعَ رَبِّهِ الآنَ، فَمَتَى سَيُصلِحُ ويَصطَلِحُ؟ ومن لم يَزَلْ مُعرِضَاً عن الطَّاعَاتِ وكَثْرَةِ النَّوَافِلِ، فَمَتَى يُقبِلُ عَلَيهَا؟

أيُّها الإخوة الكرام: هذا الشَّهرُ العَظِيمُ المُبَارَكُ آذَنَ بالرَّحِيلِ، وقَيَّضَ خِيَامَهُ، وكَادَت أن تُطوَى سِجِلَّاتُهُ، وهذهِ لَيَالِيهِ وأَيَّامُهُ الثَّمِينَةُ شَارَفَت على الانتِهَاءِ، فَلنُبَادِرْ لِكَثْرَةِ العِبَادَاتِ والطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ والتَّوبَةِ للهِ عزَّ وجلَّ.

أيُّها الإخوة الكرام: اِعلَمُوا بأَنَّ الأُمورَ بِخَوَاتِيمِهَا، فَأَحسِنُوا الخِتَامَ في شَهرِ رَمَضَانَ، اِغتَنِمُوا لَيلَةَ القَدْرِ واللَّيالِيَ التي من وَرَائِهَا بالعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ في حُسنِ الإقبَالِ على اللهِ تعالى، وبَذْلِ المَعرُوفِ والإحسَانِ، وقُومُوا هذهِ اللَّيَالِيَ المُتَبَقِّيَةَ في دَيَاجِيرِ الظَّلامِ، رَاجِينَ مَولاكُم عزَّ وجلَّ، ومُؤَمِّلِينَ قَضَاءَ حَوَائِجِكُم، وحُسنَ الخِتَامِ، والعِتقَ من النِّيرَانِ، فاللهُ تعالى أَكرَمُ الأَكرَمِينَ، وأَرحَمُ الرَّاحِمِينَ يَقُولُ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

«مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟»:

أيُّها الإخوة الكرام: من فَضْلِ اللهِ تعالى على خَلقِهِ أنَّهُ يَنزِلُ في كُلِّ لَيلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا، ويُنَادِي عِبَادَهُ من أَجلِ الإقبَالِ عَلَيهِ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟».

أيُّها الإخوة الكرام: إذا كَانَ هذا في كُلِّ لَيلَةٍ على مَدَارِ العَامِ، فَكَيفَ إذا كَانَ في لَيلَةِ القَدْرِ التي أُنزِلَ فِيهَا القُرآنُ العَظِيمُ؟ كَيفَ إذا كَانَ في لَيلَةٍ يُفرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ ويُبرَمُ؟ كَيفَ إذا كَانَ في لَيلَةٍ يَنزِلُ فِيهَا جِبرِيلُ مَعَ مَلائِكَةِ الرَّحمَةِ عَلَيهِمُ السَّلامُ؟

قال تعالى في حَقِّ لَيلَةِ القَدْرِ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾. وقال تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

لَيلَةٌ مُبَارَكَةٌ كَثُرَ خَيرُهَا:

أيُّها الإخوة الكرام: لَيلَةُ القَدْرِ لَيلَةٌ كَثُرَ خَيرُهَا، لَيلَةٌ خَصَّهَا اللهُ تعالى بإنزَالِ القُرآنِ العَظِيمِ، الذي هوَ الهُدَى والفُرقَانُ، الذي ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.

من بَرَكَةِ هذهِ اللَّيلَةِ أنَّهَا تَفُوقُ جَمِيعَ لَيَالِي الدَّهْرِ، فهيَ خَيرٌ من أَلفِ شَهْرٍ، ومن بَرَكَةِ هذهِ اللَّيلَةِ أنَّهُ من قَامَهَا غُفِرَ لَهُ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

ومن بَرَكَةِ هذهِ اللَّيلَةِ أنَّهُ من دَعَا اللهَ تعالى فِيهَا بِقَلبٍ مُنِيبٍ خَالِصٍ حَاضِرٍ استَجَابَ اللهُ تعالى دُعَاءَهُ، وخَيرُ الدُّعَاءِ فِيهَا ما عَلَّمَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للسَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، روى الإمام أحمد والترمذي عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ؟

قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العفْوَ فاعْفُ عنِّي».

أيُّها الإخوة الكرام: هَلُمُّوا إلى عِزِّ الدُّنيا، وسَعَادَةِ الآخِرَةِ، بِحُسنِ الإقبَالِ على رَبِّنَا عزَّ وجلَّ، ولنغتَنِمْ ما بَقِيَ من أَعمَارِنَا، وما بَقِيَ من أَيَّامِ رَمَضَانَ في ظِلِّ التَّوبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ، في حُسنِ العِبَادَةِ لَيلاً ونَهَارَاً، ونَحنُ نَتَذَكَّرُ المَصِيرَ والحِسَابَ والجَزَاءَ يَومَ القِيَامَةِ ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

أَلِظُّوا بالدُّعَاءِ:

أيُّها الإخوة الكرام: أَلِظُّوا بالدُّعَاءِ في هذهِ اللَّيلَةِ، لَيلَةِ السَّابِعِ والعِشرِينَ وبَقِيَّةِ اللَّيَالِي، سَلُوا اللهَ تعالى ولا تَعجَزُوا، ولا تَسْتَبطِئوا الإجَابَةَ، هذا سَيِّدُنَا يَعقُوبُ عَلَيهِ السَّلامُ فَقَدَ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيهِ السَّلامُ، ثمَّ فَقَدَ وَلَدَهُ الثَّانِي في مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، فلم يَزِدْهُ ذلكَ إلا ثِقَةً بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ وتَعَلُّقَاً بِهِ، قال تعالى عَنهُ: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

وهذا سَيِّدُنَا زَكَرِيَّا عَلَيهِ السَّلامُ، بَعدَ كِبَرِ سِنِّهِ، واشتِعَالِ الشَّيبِ في رَأسِهِ، كَانَ عَظِيمَ الرَّجَاءِ في رَبِّهِ لِتَحقِيقِ طَلَبِهِ، قال تعالى مُخبِرَاً عَنهُ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيَّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيَّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيَّاً * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيَّاً﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنُكثِرْ من الدُّعَاءِ، ولنُكثِرْ من الإلحَاحِ على اللهِ تعالى، فَرَبُّنَا عزَّ وجلَّ يُحِبُّ تَضَرُّعَنَا، ويُحِبُّ أن نَكُونَ صَابِرِينَ، ويُحِبُّ أن نَكُونَ رَاضِينَ بِقَدَرِهِ، ولنَكُنْ عل يَقِينٍ باستِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وذلكَ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

ولِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللهَ بِدُعَاءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، أَوْ يَسْتَعْجِلْ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟

قَالَ: «يَقُولُ: دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لِي» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: أَكثِرُوا من الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ في هذهِ اللَّيالِي المُتَبَقِّيَةِ رَجَاءَ أن نُصَادِفَ لَيلَةَ القَدْرِ، لأنَّ العَمَلَ فِيهَا أَفضَلُ من ثَلاثَةٍ وثَمَانِينَ عَاماً وأَربَعَةِ أَشهُرٍ، فالسَّعِيدُ من وُفِّقَ فِيهَا للعَمَلِ الصَّالِحِ، وصَادَفَ لَيلَةَ القَدْرِ.

أيُّها الإخوة الكرام: يَقُولُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عن لَيلَةِ القَدْرِ: وأَرجَاهَا عِندَ الجُمهُورِ لَيلَةُ سَبعٍ وعِشرِينَ، جَاءَ في صَحِيحِ الإمامِ مُسلم عن زِرِّ بْنَ حُبَيْشٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ ـ أَيْ تَمَامَ الْحَوْلِ، لِأَنَّهَا تَدُورُ فِي تَمَامِ السَّنَةِ ـ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.

فَقَالَ: رَحِمَهُ اللهُ، أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.

فَقُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟

قَالَ: بِالْعَلَامَةِ ـ أَوْ بِالْآيَةِ ـ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا.

اللَّهُمَّ أكرِمنَا بِقِيَامِهَا حَقَّ القِيَامِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 26/ رمضان/1435هـ، الموافق: 24/تموز / 2014م