88ـ كلمة شهر جمادى الثانية 1435هـ: ّ(أين تجارنا في الكربات)؟

 

 88ـ كلمة شهر جمادى الثانية 1435هـ: (أين تجارنا في الكربات)؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ رَبَّنا عزَّ وجلَّ لم يَخلُقْنا عَبَثاً، ولم يَترُكْنا سُدىً، خَلَقَنا لِحِكمَةٍ بالِغَةٍ، وشَرَعَ لنا شَرائِعَ كَامِلَةً، لِيَبلُوَنا أيُّنا أحسَنُ عَمَلاً، خَلَقَنا وسَنَرجِعُ إلَيهِ، وشَرَعَ لنا وسَيُحاسِبُنا عَلَيهِ، فَلنَستَعِدَّ لِلِقاءِ الله تعالى، ولنُعِدَّ الجَوابَ عمَّا سَيَسألُنا عنهُ، قال تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين﴾. وقال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون﴾. وقال تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُون﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: خُلِقنا للعِبادَةِ، فلا يَجوزُ لنا أن نَلعَبَ، وقُسِمَ لنا رِزقُنا، فلا يَجوزُ لنا أن نَتعَبَ، طُلِبَ منَّا التَّقوى والعَمَلُ الصَّالِحُ، وَوُعِدْنا عَلَيهِ بِثِمارٍ يَنشُدُها كُلُّ عاقِلٍ من بَني البَشَرِ.

وُعِدْنا على التَّقوى والعَمَلِ الصَّالِحِ بِقَولِهِ تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾. وبِقَولِهِ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾. وبِقَولِهِ تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾.

الأعمالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ للنَّجاةِ من المُهلِكاتِ:

أيُّها الإخوة الكرام: الأعمالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ للنَّجاةِ من المُهلِكاتِ العاجِلَةِ والآجِلَةِ، سَبَبٌ لِتَفريجِ كُرُباتِ الدُّنيا وكُرُباتِ الآخِرَةِ، وسَبَبٌ للأمنِ في الدُّنيا والأمنِ في الآخِرَةِ، وسَبَبٌ للخُروجِ من ضِيقِ الدُّنيا وضِيقِ الآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقَّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِين﴾. وقال تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُون﴾. هذا في الدُّنيا، أمَّا في الآخِرَةِ، فَيَقولُ اللهُ تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون﴾. ويَقولُ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: نَحنُ نَعيشُ أيَّاماً صَعبَةً قاسِيَةً، أُبدِلَ أمْنُنا خَوفاً، وشَبَعُنا جُوعاً، وتَماسُكُنا تَمَزُّقاً وتَفَرُّقاً وتَشَرذُماً، أذاقَنا اللهُ لِباسَ الخَوفِ والجَوعِ بما كَسَبَتْ أيدينا، فهل من عَودَةٍ إلى الغايَةِ التي خُلِقنا من أجلِها؟ هل من عَودَةٍ إلى التَّقوى والأعمالِ الصَّالِحَةِ، عسى اللهُ تعالى أن يُخرِجَنا من هذا الغَمِّ والهَمِّ والكَربِ العَظيمِ؟

لقد سَمِعنا أيُّها الإخوة الكرام حَديثَ الثَّلاثَةِ الذينَ آواهُمُ المَبيتُ إلى غارٍ، وانَحَدَرَت عَلَيهِم صَخرَةٌ عَظيمَةٌ سَدَّت عَلَيهِم بابَ الغارِ، أوقَعَتْهُم في هَمٍّ وغَمٍّ لا يَعلَمُهُ إلا اللهُ تعالى، ولكن بِبَرَكَةِ الأعمالِ الصَّالِحَةِ أنجاهُمُ اللهُ تعالى.

لقد أنجاهُمُ اللهُ تعالى بِبَرَكَةِ بِرِّ الوالِدَينِ، وبِبَرَكَةِ تَرْكِ المَعاصي والمُنكَراتِ وخاصَّةً فاحِشَةِ الزِّنا، وبِبَرَكَةِ الأمانَةِ والصِّدْقِ في التَّعامُلِ وخاصَّةً معَ الأُجَراءِ، واسمَعوا إلى ما قالَ ثالِثُ الثَّلاثَةِ.

يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيراً بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَراً وَرِعَاءَهَا.

فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي.

قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا فَخُذْهَا.

فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي.

فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا.

فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ، فَفَرَجَ اللهُ مَا بَقِيَ» رواه الشيخان عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما.

أينَ تُجَّارُنا من هَدْيِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

أيُّها الإخوة الكرام: أينَ تُجَّارُنا من هَدْيِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تَعامُلِهِم معَ أُجَرائِهِم؟

اِسمَعوا يا تُجَّارَ هذهِ الأمَّةِ إلى هَدْيِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هذا المَوضوعِ:

أولاً: روى ابنُ ماجه عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ». بادِروا في إيفاءِ الأجيرِ حَقَّهُ، ولا تُؤَخِّروا الوَفاءَ بلا عُذرٍ، فَتَأخيرُ أُجرَتِهِ بلا عُذرٍ ظُلمٌ وعُدوانٌ.

ثانياً: روى الإمام البخاري عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ». والأُجَراءُ اليَومَ بِمَنزِلَةِ الأرِقَّاءِ، فهل تَسمَعونَ هَدْيَ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في ذلكَ؟

أيُّها الإخوة الكرام: اُنظُروا إلى هذا الأدَبِ العَظيمِ والتَّعامُلِ الجَمِّ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُم».

نَعَم، الأَجيرُ تَحتَ يَدِكَ لِفَقرِهِ وحاجَتِهِ، فهل تُطعِمُهُ مِمَّا تَأكُلُ؟ وهل تُلبِسُهُ مِمَّا تَلبَسُ؟ وهل تُعينُهُ إذا كَلَّفتَهُ فَوقَ طاقَتِهِ؟ وهل حَوَّلتَ أُجرَتَهُ إلى العُملَةِ الصَّعبَةِ كما حَوَّلتَ رأسَمالِكَ؟

ثالثاً: روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرَّاً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ». لا تَغتَرَّ أيُّها التَّاجِرُ بِقُوَّتِكَ، ولا تَغتَرَّ بِغِناكَ، ولا تَغتَرَّ بِمَعارِفِكَ، ولا تَغتَرَّ بِضَعفِ العامِلِ وقِلَّةِ حِيلَتِهِ، لا يَغُرَّنَكَ هذا، راقِبِ الله تعالى الذي أعطاكَ وحَرَمَهُ، واعلَمْ بأنَّهُ تعالى قادِرٌ على سَلْبِ النِّعمَةِ منكَ وإعطائِهُ إيَّاها.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: بِتَقوى الله تعالى، وحُسنِ التَّعامُلِ معَ الآخَرينَ، يُخرِجُنا اللهُ تعالى من الأزمَةِ بِسَلامٍ إن شاءَ اللهُ تبارَكَ وتعالى، لقد سَمِعنا: بِبِرِّ الوالِدَينِ يَكشِفُ اللهُ تعالى الكَربَ والغُمَّةَ، وبِتَقوى الله تعالى وتَرْكِ الفَواحِشِ يَكشِفُ اللهُ تعالى الكَربَ والغُمَّةَ، وبالأمانَةِ ورِعايَتِها لأصحابِها يَكشِفُ اللهُ تعالى الكَربَ والغُمَّةَ.

فهل جَعَلنا هذا شِعارَنا، اللهُ شاهِدي، اللهُ ناظِري، اللهُ مَعِي؟

هل جَعَلنا لأنفُسِنا رَصيداً عِندَ الله تعالى أيَّامَ الرَّخاءِ، من أجلِ أيَّامِ الشِّدَّةِ؟

هل تَنافَسنا في التَّقرُّبِ إلى الله تعالى بِبِرِّ الوالِدَينِ، والعِفَّةِ عن مَحارِمِ الله تعالى، ورِعايَةِ حُقوقِ الآخَرينَ؟

هل أعطَينا صُورَةً حَسَنَةً عن إسلامِنا مُتَمَثِّلَةً في أقوالِنا وأفعالِنا وأحوالِنا؟

يا عِبادَ الله، للخُروجِ من هذهِ الأزمَةِ أسبابٌ من جُملَتِها:

الإيمانُ والعَملُ الصَّالِحُ، والتَّوبَةُ والإنابَةُ، وصُنعُ المَعروفِ، ورَفْعُ الظُّلمِ، وبِرُّ الوالِدَينِ، وتَرْكُ الفَواحِشِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، وحِفظُ الأمانَةِ وأداؤُها لأصحابِها.

اللَّهُمَّ وَفِّقْا لذلك، ورُّدَّنا إلَيكَ رَدَّاً جَميلاً يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ. آمين.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 1/جمادى الثانية/1435هـ، الموافق: 1/نيسان/ 2013م