128ـ مع الحبيب المصطفى: «فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ»

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

128ـ «فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: هذهِ الفِتَنُ والنَّوَازِلُ التي تَجتاحُ الأُمَّةَ اليَومَ، تَحتاجُ منَّا إلى نَظرَةٍ وتَأَمُّلٍ، فاللهُ تَبَارَكَ وتعالى لا يَبتَلِي عِبادَهُ إلا لِحِكمَةٍ وغَايَةٍ هوَ بَالِغُها، ومَنزِلَةٍ سَيُبَلِّغُهُم إيَّاها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾. وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِن الله مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ» رواه الإمام أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللهُ عنهُم.

أيُّها الإخوة الكرام: إذا عَلِمَتِ الأُمَّةُ هذهِ الحَقيقَةَ، فإنَّها لا تَتَغَيَّرُ ثَوَابِتُها لِمِحنَةٍ مُزَلزِلَةٍ قَاسِيَةٍ قد تُوصِلُ القُلوبَ إلى الحَناجِرِ، ولا تَحيدُ عن شَرعِ الله عزَّ وجلَّ لِحَوادِثَ مُدَوِّيَةٍ تَكادُ أن تَطيشَ بالعُقولِ، بل تُحسِنُ الظَّنَّ بالله تعالى، وتَتَوَكَّلُ عَلَيهِ؛ وكَيفَ لا تَتَوَكَّلُ عَلَيهِ في الأزَماتِ والشَّدائِدِ والمِحَنِ والنَّوازِلِ، وقد هَداها اللهُ تعالى إلى السَّبيلِ الأقوَمِ والصِّراطِ المُستَقيمِ، صِراطِ الذينَ أنعَمَ عَلَيهِم في الحَياةِ الدُّنيا، وضَمِنَ لَهُمُ النَّتيجَةَ في الآخِرَةِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ؟ قال تعالى مُخبِراً عن المُتَوَكِّلينَ على الله تعالى حَقَّ تَوَكُّلِهِ: ﴿وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون﴾.

أَجَلُّ صِفاتِ المُؤمِنينَ التَّوَكُّلُ على الله تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: أَجَلُّ صِفاتِ المُؤمِنينَ، وأعلَى دَرَجاتِ السَّالِكينَ، وأعلَى مَقاماتِ المُوَحِّدينَ، التَّوَكُّلُ على الله تعالى، قال تعالى في صِفاتِ المُؤمِنينَ الذينَ آمَنوا حَقَّ الإيمانِ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم﴾.

المُؤمِنونَ حَقَّاً يَتَوَكَّلونَ على الله تعالى في الأزَماتِ، فلا يَفرَحونَ بما أُوتوا، ولا يَحزَنُونَ على ما فاتَ، فَهُم يَعلَمونَ حَقَّاً قَولَهُ تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الـمُؤْمِنُونَ﴾.

ورَحِمَ اللهُ تعالى الإمامَ القُرطُبِيَّ الذي قال: لا تَكرَهُوا المُلِمَّاتِ الوَاقِعَةَ، فَلَرُبَّ أَمرٍ تَكرَهُهُ فِيهِ نَجَاتُكَ، وَلَرُبَّ أَمرٍ تُحِبُّهُ فِيهِ عَطَبُكَ. اهـ.

أيُّها الإخوة الكرام: كونوا على يَقينٍ بأنَّ ما يَمُرُّ على المُسلِمينَ اليَومَ، وخاصَّةً في هذا البَلَدِ الحَبيبِ، لن يُؤَثِّرَ على عَقيدَةِ أهلِ الإيمانِ، ولن يُزَعزِعَ ثِقَتَهُم بالله تعالى، وسَوفَ تَرجِعُ الأُمَّةُ إلى عَافِيَتِها إن شاءَ اللهُ تعالى، وإنْ ظَنَّ البَعضُ أَنَّها صَارَت هَالِكَةً.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَلتَزِمْ كِتابَ الله تعالى، وسُنَّةَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولنَملَأْ قُلوبَنا بالأمَلِ، ولنُزِحْ عن صُدورِنا اليَأسَ والقُنوطَ، فإنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُون.

«فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ»:

أيُّها الإخوة الكرام: التَّوَكُّلُ على الله تعالى من أعظَمِ الأسبابِ التي يَحصُلُ بها المَطلوبُ، ويَنَدَفِعُ بها المَرهوبُ، لِنَأخُذْ بالأسبابِ ولا نَركَنْ إلَيها، فَلتَكُنْ أجسادُنا مَعَ الأسبابِ، وقُلوبُنا مَعَ الله عزَّ وجلَّ، ولنُفَوِّضْ أمرَنا لِصَاحِبِ الأمرَ، ولنَنظُرْ إلى حَقيقَةِ التَّوَكُّلِ في شَخصِيَّةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ ـ وَقتُ القَيلولَةِ ـ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ـ أشجارٌ ذاتُ شَوكٍ ـ  فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ.

فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، ثُمَّ نَامَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ ـ سَلَّ ـ  سَيْفِي».

فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ؟

قُلْتُ: «اللهُ».

فَشَامَ السَّيْفَ ـ رَدَّهُ في غِمدِهِ ـ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ؛ ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ.

وفي رِوايَةٍ للإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ الرَّجُلُ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ عَزَّ وَجَلَّ».

فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟».

قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ.

قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟».

قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ.

فَخَلَّى سَبِيلَهُ.

قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ وقَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ.

أيُّها الإخوة الكرام: والله الذي لا إلهَ غَيرُهُ، لو عَرَفْنا حَقيقَةَ التَّوَكُّلِ على الله تعالى، وَتَعَبَّدْنا به إلى الله تعالى، لَرَفَعَ اللهُ تعالى شَأنَنا، وأعَزَّ دِينَنا.

نَموذَجٌ رَائِعٌ في التَّوَكُّلِ على الله تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: نَموذَجٌ رَائِعٌ في التَّوَكُّلِ على الله تعالى، يَقُصُّهُ عَلَينا رَبُّنا عزَّ وجلَّ في القرآنِ العَظيمِ: قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين﴾.

من الطَّرَائِفِ، أنَّ امرأَةً أعرابِيَّةً سَمِعَت تَالِياً للقُرآنِ يَتلُوا قَولَ الله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين﴾. وهيَ لا تَعلَمُ أنَّ هذا قُرآنٌ.

فقالَت: سُبحانَ الله، كَلامُ من هذا؟

قالوا: وماذا تُريدينَ؟

قالَت: أتَى بأمرَينِ، وبِنَهيَين، وبِشَارَتَينِ، كَلامُ من؟

قالوا: كَلامُ الله.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَنظُرْ إلى عَظيمِ إرادَةِ الله تعالى، كَيفَ يُحَوِّلُ المَخاطِرَ إلى أسبابِ أمنٍ ونَجاةٍ، أوحَى اللهُ تعالى إلى أُمِّ مُوسى أن أرضِعيهِ، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين.

لقد امتَثَلَت أُمُّ سَيِّدِنا مُوسَى أمرَ الله تعالى، فَحَقَّقَ اللهُ تعالى لها البِشَارَةَ، ظاهرُ الأمرِ كانَ مَكروهاً، وحَقيقَةُ الأمرِ هوَ المَطلوبُ، من تَوَكَّلَ على الله تعالى فَهوَ حَسبُهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: حَلُّ مُشكِلَتِنا وأزمَتِنا هوَ في تَوَكُّلِنا على الله تعالى، مهما كانَتِ الظُّروفُ قَاسِيَةً، فَهُناكَ وَعْدٌ من الله تعالى لا يُخلَفُ ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. وهُناكَ بَشَائِرٌ تَجعَلُ المُؤمِنَ المُتَوَكِّلَ على الله تعالى يَرَى في العُسرِ يُسراً، وفي الضِّيقِ فَرَجاً ومَخرَجاً، وفي الظُّلمَةِ نُوراً ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾. ويَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَن يَغلِبَ عُسرٌ يُسرَينِ» رواه الحاكم عن الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَلتَزِمْ دِينَ الله تعالى في هذهِ الأزمَةِ، ولا تُخرِجْنا هذهِ الأزمَةُ عن دَائِرَةِ التَّكَاليفِ الشَّرعِيَّةِ، لِنُحِلْ ما أحَلَّ اللهُ تعالى، ولنُحَرِّمْ ما حَرَّمَ اللهُ تعالى، ثمَّ لِنَتَوَكَّلْ على الله تعالى، ونَحنُ نَضَعُ قَولَ الله تعالى أمامَنا: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾. وقَولَهُ تعالى: ﴿وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي﴾. وقَولَهُ تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل﴾.

رَبَّنا عَلَيكَ تَوَكَّلنا وإلَيكَ أَنَبنَا، وإلَيكَ المَصيرُ.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 17/جمادى الأولى/1435هـ، الموافق: 17/نيسان/ 2014م