145ـ مع الحبيب المصطفى: «أيَّتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله»

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

145ـ «أيَّتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: الإنسَانُ يَعِيشُ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيا بِمِقدَارِ ما قَدَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَهُ أن يَعِيشَ، ويَمشِي في الأرضِ بِمِقدَارِ ما قَدَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَهُ من خُطُوَاتٍ، ويَتَقَلَّبُ فِيهَا، فَيَتَذَوَّقُ من حُلوِهَا ومُرِّهَا، وسُرُورِهَا وأَحزَانِهَا، بِمِقدَارِ ما قَدَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَهُ، ويَأخُذُ فِيهَا حَظَّهُ من الشَّقَاءِ، وحَظَّهُ من السَّعَادَةِ بِمِقدَارِ ما قَدَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَهُ، وما قَدَّرَهُ عَلَيهِ، ولكن لِكُلِّ هذهِ التَّقَلُّبَاتِ نِهَايَةٌ، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. وقال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.

وقالَ لِسَيِّدِ الأنبِيَاءِ والمُرسَلِينَ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾. وقالَ لَهُ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾.

فالمَوتُ لا بُدَّ مِنهُ، ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، والبَقَاءُ في الدُّنيا شَيءٌ مُحَالٌ، فالدُّنيا جِسرٌ ومَمَرٌّ ومَعبَرٌ وطَرِيقٌ إلى الآخِرَةِ، ومن النَّاسِ من يَتَخَبَّطُ في هذا الطَّرِيقِ ويَتَعَثَّرُ ولا يَهتَدِي، ومِنهُم من يُوَفِّقُهُ اللهُ تعالى فَيَسلُكُ الطَّرِيقَ المُستَقِيمَ لا يَلوِي على شَيءٍ إلَّا على زَادِ الآخِرَةِ ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.

خَرَجَنَا من ظُلُمَاتٍ، ونَعُودُ إلى ظُلُمَاتٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد خَرَجَنَا من ظُلُمَاتٍ، من ظُلُمَاتِ البَطْنِ والرَّحِمِ، ونَعُودُ إلى ظُلُمَاتِ القُبُورِ، قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾.

لقد دَفَعَنَا جَوفٌ يَحِنُّ إلَينَا، إلى جَوفٍ يَشتَاقُ إلَينَا، وبَينَ الجَوفَينِ كَانَ ابتِلاؤُنَا واختِبَارُنَا، ففي الحَيَاةِ الدُّنيا السَّرَّاءُ والضَّرَّاءُ، والسَّعَادَةُ والشَّقَاءُ، نَخرُجُ من شِدَّةٍ إلى رَخَاءٍ، ومن رَخَاءٍ إلى بَلاءٍ، وتَتَغَيَّرُ أَحوَالُنَا من ذُلٍّ إلى عِزٍّ، ومن عِزٍّ إلى ذُلٍّ، ومن غِنَىً إلى فَقرٍ، ومن فَقرٍ إلى غِنَىً، ومن صِحَّةٍ إلى مَرَضٍ، ومن مَرَضٍ إلى صِحَّةٍ، كُلُّ ذلكَ لا يَدُومُ، فالسَّرَّاءُ لا تَدُومُ وكذلكَ الضَّرَّاءُ، والسَّعَادَةُ لا تَدُومُ وكذلكَ الشَّقَاءُ، والرَّخَاءُ لا يَدُومُ وكذلكَ البَلاءُ، والعِزُّ لا يَدُومُ وكذلكَ الذُّلُ، والغِنَى لا يَدُومُ وكذلكَ الفَقرُ، والصِّحَّةُ لا تَدُومُ وكذلكَ المَرَضُ، قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. فالسَّعِيدُ من أَخَذَ من دُنيَاهُ لآخِرَتِهِ، وحَاسَبَ نَفسَهُ قَبلَ أن يُحَاسَبَ، ورَاقَبَ مَولاهُ الذي لا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّمَاءِ، وتَابَ إلى اللهِ تَوبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾.

فِتنَةُ المَوتِ:

أيُّها الإخوة الكرام: مَعَ شِدَّةِ سَكَرَاتِ المَوتِ هُنَاكَ فِتنَةٌ، المَوتُ فِيهِ آلامٌ لا يَعلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، روى الإمام أحمد والترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ».

وفي رِوَايَةِ الإمام البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَت: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ ـ أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ ـ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ». ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: «فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ.

مَعَ هذهِ السَّكَرَاتِ وشِدَّتِهَا تَأتِي فِتنَةُ المَوتِ، جاء في التَّذكِرةِ للقرطُبِي أنَّه قَال: سَمِعتُ شَيخَنَا الإِمَامَ أَبَا العَبَّاسِ أَحمَدَ بنَ عُمَرَ القُرطُبِيِّ بِثَغرِ الإسكَندَرِيَّةِ يَقُولُ: حَضَرَت أَخَا شَيخِنَا أَبِي جَعفَر أَحمَد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد القُرطُبِيِّ بِقُرطُبَةَ وَ قَدِ احتُضِرَ فَقِيلَ لَهُ: قُل: لَا إِلَه إِلا اللهُ فَكَانَ يَقُولُ: لَا لَا فَلَمَّا أَفَاقَ ذَكَرنَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَانِي شَيطَانَانِ عَن يَمِينِي وَعَن شِمَالِي يَقُولُ أَحَدُهُمَا: مُتْ يَهُودِيَّاً فَإنَّهُ خَيرُ الأَديَانِ وَالآخَرُ يَقُولُ: مُتْ نَصرَانِيَّاً فَإنَّهُ خَيرُ الأَديَانِ فَكُنتُ أَقُولُ لَهُمَا : لَا لَا أَلي تَقُولَانَ هَذَا؟

وقد ذَكَرَ العُلَمَاءُ أنَّ الشَّيطَانَ يَأتِي في تِلكَ اللَّحظَةِ الحَرِجَةِ في صُورَةِ أَبِيهِ أو أُمِّهِ، أو مِمَّن هوَ شَفِيقٌ نَاصِحٌ لَهُ، ويَدعُوهُ إلى اتِّبَاعِ اليَهُودِيَّةِ أو النَّصرَانِيَّةِ أو غَيرِهَا من الأَديَانِ البَاطِلَةِ، وهُنَاكَ يَزِيغُ من حَقَّت عَلَيهِ الضَّلالَةُ، وهُنَاكَ من يُثَبِّتُهُ اللهُ تعالى بالقَولِ الثَّابِتِ، قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَمَرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أن نَستَعِيذَ باللهِ تعالى من فِتنَةِ المَوتِ، وذلكَ من خِلالِ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: المُؤمِنُونَ الصَّادِقُونَ في إيمَانِهِم هُمُ الذينَ يَستَغِلُّونَ هذهِ الحَيَاةَ الدُّنيا، هُمُ الذينَ يَستَغِلُّونَ أَنفَاسَ أَعمَارِهِم لِيَجعَلُوا من ذلكَ قُبُورَاً تَكُونُ لَهُم رَوضَةً من رِيَاضِ الجَنَّةِ.

المُؤمِنُونَ الصَّادِقُونَ إذا جَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عِندَ سَكَرَاتِ المَوتِ لِيَجتَالُوهُم ثَبَّتَهُمُ اللهُ تعالى، وأَنزَلَ عَلَيهِم مَلائِكَةَ التَّثبِيتِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِن الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِن الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِن السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن اللهِ وَرِضْوَانٍ» رواه الإمام أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: هذا مِصدَاقُ قَولِ اللهِ تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾. وقَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.

اللَّهُمَّ ثَبِّتنَا بالقَولِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 8/شوال /1435هـ، الموافق: 4/آب / 2014م