100ـ كلمة شهر جمادى الثانية 1436هـ: لا تتوقف عن الأمر بالمعروف, وإن لم تعمل به

 

 100ـ كلمة شهر جمادى الثانية 1436هـ: لا تتوقف عن الأمر بالمعروف، وإن لم تعمل به

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: مَن حُجِبَ عن العِلْمِ عَذَّبَهُ اللهُ تعالى على جَهْلِهِ، وأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابَاً من أَقبَلَ عَلَيهِ العِلْمُ فَأَدْبَرَ عَنهُ، وسَاقَ اللهُ إِلَيهِ الهُدَى فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾.

يَقُولُ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: تَعَلَّمُوا العِلْمَ واعْمَلُوا بِهِ، ولا تَتَعَلَّمُوهُ لِتَتَجَّمَلُوا بِهِ؛ فَإِنَّهُ يُوشِكُ إن طَالَ بِكُم زَمَانٌ أن يَتَجَمَّلَ بالعِلْمِ كَمَا يَتَجَمَّلُ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ.

ويَقُولُ عَبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنَّ النَّاسَ أَحْسَنُوا القَولَ كَلَّهُم، فَمَن وَافَقَ قَولُهُ فِعْلَهُ فَذَلكَ الذي أَصَابَ حَظَّهُ، ومن خَالَفَ قَولُهُ فِعْلَهُ فَإِنَّمَا يُوَبِّخُ نَفْسَهُ.

ويَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: اِعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، وَدَعُوا أَقْوَالَهُم، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَدَعْ قَولَاً إلا جَعَلَ عَلَيهِ دَلِيلَاً من عَمَلٍ يُصَدِّقُهُ أو يُكَذِّبُهُ، فإذا سَمِعْتَ قَولَاً حَسَنَاً فَرُوَيدَاً بِصَاحِبِهِ، فَإِنْ وَافَقَ قَولُهُ عَمَلَهُ فَنِعْمَ ونِعْمَت عَينٌ.

أيُّها الإخوة الكرام: لِيَذْكُرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَولَهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. وقَولَهُ تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟﴾.

لا تَتَوَقَّفْ عن الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، وإنْ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ:

أيُّها الإخوة الكرام: هُنَاكَ بَعْضُ النَّاسِ من يَتَوَقَّفُ عن الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، لأنَّهُ لا يَعْمَلُ بِهِ، كَمَا يَتَوَقَّفُ عن النَّهْيِ عن المُنْكَرِ، لأنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، خَشْيَةَ أن يَكُونَ مِمَّن يَقُولُ ولا يَفْعَلُ.

هذا التَّوَقُّفُ في الحَقِيقَةِ من وَسْوَسَةِ الشَّيطَانِ وإِغْرَائِهِ، يَقُولُ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنْ لَمْ يَأْمُرْ بالمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْهَ عن المُنْكَرِ إلا مَن لا يَكُونُ فِيهِ شَيءٌ؛ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِشَيءٍ، فَأَعْجَبَ مَالِكَاً ذلكَ من سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ.

أيُّها الإخوة الكرام: قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى لمطرف: عِظْ أَصْحَابَكَ.

فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أنْ أَقُولَ ما لا أَفْعَلُ.

فَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ؛ وَأَيُّنَا يَفْعَلُ ما يَقُولُ، وَدَّ الشَّيطَانُ أَنَّهُ لَو ظَفَرَ مِنكُم بهذهِ، فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ مِنكُم بِمَعْرُوفٍ، وَلَمْ يَنْهَ عن مُنْكَرٍ.

أيُّها الإخوة الكرام: قَالَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يُوصِي ابْنَهُ عَبدَ المَلِكِ بَعدَ مَا تَولَّى الخِلافَةَ: أمَّا بَعدُ: فَإِنَّ أَحَقَّ من تَعَاهَدْتُ بالوَصِيَّةِ والنَّصِيحَةِ بَعدَ نَفْسِي أَنتَ، وإنَّ أَحَقَّ من رَعَى ذلكَ وَحَفِظَهُ عَنِّي أَنتَ، وإنَّ اللهَ تعالى لَهُ الحَمْدُ قد أَحْسَنَ إِلَينَا إِحْسَانَاً كَثِيرَاً بَالِغَاً في لَطِيفِ أَمْرِنَا وَعَامَّتِهِ، ... إلى أن قَالَ لَهُ: وَإِنِّي لَأَعِظُكَ بهذا، وَإِنِّي لَكَثِيرُ الإِسْرَافِ على نَفْسِي، غَيرُ مُحَكِّمٍ لِكَثِيرٍ من أَمْرِي، ولو أَنَّ المَرْءَ لَمْ يَعِظْ أَخَاهُ حَتَّى يُحَكِّمَ نَفْسَهُ، وَيُكْمِلَ في الذي خُلِقَ لَهُ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، إذاً تَوَاكَلَ النَّاسُ الخَيرَ، وإذاً يُرْفَعُ الأَمْرُ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عن المُنْكَرِ، واستُحِلَّتِ المَحَارِمُ، وَقَلَّ الوَاعِظُونَ والسَّاعُونَ للهِ بالنَّصِيحَةِ في الأَرضِ، فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَواتِ والأَرضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ في السَّمَواتِ والأَرضِ وهوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أَعِظُكُم وَلَستُ بِخَيرِكُم وَلَا أَصْلَحَكُم، وَإِنِّي لَكَثِيرُ الإِسرَافِ عَلَى نَفسِي، غَيرَ مُحْكِمٍ لَهَا وَلَا حَامِلُهَا عَلَى الوَاجِبِ فِي طَاعَةِ رَبِّهَا، وَلَو كَانَ المُؤمِنُ لَا يَعِظُ أَخَاهُ إِلَّا بَعدَ إِحكَامِ أَمْرِ نَفسِهِ لَعُدِمَ الوَاعِظُونَ، وَقَلَّ المُذَكِّرُونَ، وَلَما وُجِدَ مَن يَدعُو إِلى اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَيُرَغِبُ فِي طَاعَتِهِ وَيَنهَى عَن مَعصِيَتِهِ، وَلكِن فِي اجتِمَاعِ أَهلِ البَصَائِرِ وَمُذَاكَرَةِ المُؤمِنِينَ بَعضَهُم بَعضاً، حَيَاةٌ لِقُلُوبِ المُتَّقِينَ، وَإِذكَارٌ مِنَ الغَفلَةِ، وَأَمنٌ مِنَ النِسْيَانِ، فَألزَمُوا ـ عافاكم الله ـ مَجَالِسَ الذِّكرِ، فَرُبَّ كَلِمَةٍ مَسْمُوعَةٌ ومُحتَقَرٍ نَافِعٌ.

ويَقُولُ الحَافِظُ بنُ حَجَرٍ نَاقِلاً قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ: يَجِبُ الأَمْرُ بالمَعْرُوفِ لَمِن قَدِرَ عَلَيهِ وَلَمْ يَخَفْ على نَفْسِهِ مِنهُ ضَرَرَاً، وَلَو كَانَ الآمِرُ مُتَلَبِّسَاً بالمَعْصِيَةِ، لأَنَّهُ في الجُمْلَةِ يُؤْجَرُ على الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، ولا سِيَّمَا إن كَانَ مُطَاعَاً، وأَمَّا إِثْمُهُ الخَاصُّ بِهِ فَقَد يَغْفِرُهُ اللهُ لَهُ وقد يُؤَاخِذُهُ بِهِ، وأَمَّا مَن قَالَ: لا يَأْمُرْ بالمَعْرُوفِ إلا من لَيسَت فِيهِ وَصْمَةٌ، فإنْ أَرَادَ أَنَّهُ الأَولَى فَجَيِّدٌ، وإلا فَيَسْتَلْزِمُ سَدُّ بَابِ الأَمْرِ إذا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ.

ورَحِمَ اللهُ تعالى القَائِلَ:

وَلَو لَمْ يَعِظْ في النَّاسِ مَن هوَ مُذْنِبٌ   ***   فَمَن يَعِظُ العَاصِينَ بَعدَ مُحَمَّدِ

الكَمَالُ في شَخْصِيَّةِ الدَّاعِي:

أيُّها الإخوة الكرام: ومِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أنَّ كَمَالَ شَخْصِيَّةِ الدَّاعِي أن تَتَوَافَقَ أَقْوَالُهُ مَعَ أَفْعَالِهِ، لأنَّ ذَاكَ يَكُونُ أَبلَغَ في قُلُوبِ الآخَرِينَ، ومَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُؤَثِّرَاً في الصَّحْبِ الكِرَامِ إلا لِتَطَابُقِ أَقْوَالِهِ مَعَ أَفْعَالِهِ.

جَاءَ رَجُلٌ إلى ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، فَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ أُن أَعِظَ النَّاسَ.

قَالَ: مَاذَا فَعَلتَ بِقَولِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾. أَأَحكَمتَهَا؟

قَالَ: لَا.

قَالَ فَهَل أَحْكَمتَ قَولَهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾. أَأَحكَمتَهَا؟

قَالَ: لَا.

قَالَ فَهَل أَحْكَمتَ قَولَهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَن شُعَيبٍ : ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾. أَأَحكَمتَهَا؟

قَالَ: لَا.

قال: فَاذهَب، فَمُر نَفسَكَ ثُمَّ مُرِ النَّاسَ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الأَمْرَ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيَ عن المُنْكَرِ، هُمَا ثَمَرَةُ الإِيمَانِ الصَّادِقِ وعُنوَانُ العَمَلِ الصَّالِحِ، والكَمَالُ في شَخْصِيَّةِ الإِيمَانِ أنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ قَبلَ أن يَأْمُرَ الآخَرِينَ، وأن يَنهَى نَفْسَهُ قَبلَ أن يَنهَى الآخَرِينَ، وإذا لَمْ يَأْتَمِرْ هوَ أَولاً، ولَمْ يَنْتَهِ هوَ أولاً، فَلْيَأْمُرْ ولْيَنْهَ، لَعَلَّ الأَمْرَ والنَّهْيَ للآخَرِينَ يَكُونُ سَبَبَاً في اسْتِقَامَتِهِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا من الآمِرِينَ بالمَعْرُوفِ، والنَّاهِينَ عن المُنْكَرِ، ومن المُلْتَزِمِينَ نَحنُ أَولاً. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 1/جمادى الثانية /1435هـ، الموافق: 21/آذار / 2015م

أخوكم أحمد النعسان

 

يرجوكم دعوة صالحة