15ـ مع الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم: فارقت السيدة خديجة الدنيا وما فارقت

 

 مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

15ـ فارقت السيدة خديجة الدنيا وما فارقت

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَاً، وكَانَت عَظَمَتُهُ تُبْهِرُ العُقُولَ، وتُحَيِّرُ الأَفكَارَ، كَانَ عَظِيمَاً لأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَظِيمٌ، حَيثُمَا تَوَجَّهتَ في سِيرَتِهِ وَجَدْتَ عَظَمَتَهُ، ورَبَّى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ آلَ بَيتِهِ الأَطهَارَ على الكَمَالِ، ورَبَّاهُم على الصَّبْرِ والتَّصَبُّرِ، رَبَّاهُم على قَولِهِ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلاً﴾.

عَامُ الحُزْنِ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَا مَن تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ، هَل سَمِعْتُمْ بِعَامِ الحُزْنِ الذي مَرَّ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

عَامُ الحُزْنِ الذي مَرَّ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَيفَ تَكُونُ الثِّقَةُ باللهِ تعالى، ويُعَلِّمُنَا كَيفَ نَنْزِعُ عَن أَنفُسِنَا ثَوْبَ اليَأْسِ والقُنُوطِ، يُعَلِّمُنَا حَقِيقَةَ قَولِ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا﴾.

لقد مَرَّتْ أَحدَاثٌ جِسَامٌ في أَقَلَّ من أَربَعَةِ أَشْهُرٍ كَادَتْ أن تَعْصِفَ بالدَّعْوَةِ في مَهْدِهَا الأَوَّلِ، وكَانَتْ في نَظَرِ المُرْجِفِينَ ومَحْدُودِي الرُّؤْيَةِ أَحْدَاثَاً مُؤْذِنَةً بِنِهَايَةِ دَعْوَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، في عَامِ الحُزْنِ:

أولاً: وَفَاةُ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: مَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ الذي كَانَ عَضُدَاً وحِرْزَاً ونَاصِرَاً ومَنْعَةً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَنَالَتْ مِنهُ قُرَيشٌ، واجْتَرَأَتْ عَلَيهِ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَتْ قُرَيشٌ كَافَّةً عَنِّي حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأَوسَطِ عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها. فَحَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على وَفَاةِ عَمِّهِ حُزْنَاً شَدِيدَاً.

ثانياً: رَحِيلُ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها:

أيُّها الإخوة الكرام: صَدَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ القَائِلُ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾. وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾. وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾. وصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ حينَ سَأَلَهُ سَعْدٌ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» رواه الترمذي.

لقد حَزِنَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على وَفَاةِ عَمِّهِ حُزْنَاً شَدِيدَاً، ولكنَّ الابْتِلاءَاتِ لَمْ تَتَوَقَّفْ، وخَاصَّةً مَعَ سَيِّدِ الأَنبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أيُّها الإخوة الكرام: بَعدَ خُرُوجِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الشِّعْبِ، ومَعَهُ زَوجَتُهُ وبَنَاتُهُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ، وبَعدَ وَفَاةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ بَدَأَتْ وَطْأَةُ المَرَضِ تَشْتَدُّ على أُمِّنَا أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ الكُبْرَى رَضِيَ اللهُ عَنها، ولكن لَمْ يَشْغَلْهَا مَا تُعَانِيهِ من مَرَضٍ عن سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَل كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ودَعْوَتُهُ شُغْلَهَا الشَّاغِلَ.

كَانَتْ تَصْبِرُ على أَلَمِهَا، وتُصَابِرُ نَفْسَهَا، وكَانَتْ تَبْتَسِمُ رَضِيَ اللهُ عَنها حِينَ يَدْخُلُ عَلَيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأَنَّهَا كَانَتْ تَرَى في وَجْهِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُمُومَ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، لأنَّ اللهَ تعالى قَالَ لَهُ: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾. وقَالَ لَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾. فَكَانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنها تَشُدُّ على يَدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وتَمْسَحُ عَنهُ بهذا التَّأْيِيدِ كُلَّ آثَارِ التَّعَبِ والغَضَبِ.

أيُّها الإخوة الكرام: هذا هوَ شَأْنُ المَرأَةِ الصَّالِحَةِ، هذا هوَ شَأْنُ مَن قَالَ فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ» رواه أبو داود عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

نَعَم، هكذا يَكُونُ شَأْنُ المَرأَةِ الصَّالِحَةِ مَعَ زَوجِهَا، وهكذا يَكُونُ شَأْنُهَا مَعَ أَبْنَائِهَا، بِحَيثُ تَمْسَحُ عَن جَبِينِهِم كُلَّ وَعَثَاءِ الطَّرِيقِ، وتُزِيلُ عَنهُم كُلَّ آلامِ الدُّنيَا، كَانَتْ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها نِعْمَتِ الأُمُّ لِبَنَاتِهَا.

أَعْظَمُ نِعْمَةٍ على السَّيِّدَةِ خَدِيجةَ رَضِيَ اللهُ عَنها:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد قَدَّرَتْ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها نِعْمَةَ اللهِ عزَّ وجلَّ عَلَيهَا، حِينَ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهَا للإِسْلامِ قَبْلَ جَمِيعِ النِّسَاءِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ المُؤْمِنَاتِ من النِّسَاءِ، وقَدَّرَتْ نِعْمَةَ اللهِ عزَّ وجلَّ عَلَيهَا، حِينَ وَفَّقَهَا للقِيَامِ في خِدْمَةِ دَعْوَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ودِينِهِ الخَالِدِ، مُحْتَسِبَةً مَا قَامَتْ بِهِ للهِ عزَّ وجلَّ، وقَدَّرَتْ نِعْمَةَ اللهِ عزَّ وجلَّ عَلَيهَا، حِينَ وَفَّقَهَا للقِيَامِ في خِدْمَتِهَا لِزَوجِهَا الأَمِينِ، رَسُولِ رَبِّ العَالِمِينَ، الذي خَصَّهُ اللهُ تعالى بالرِّسَالَةِ، وجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، وقَدَّرَتْ نِعْمَةَ اللهِ عزَّ وجلَّ العُظْمَى عَلَيهَا، أن نَقَشَ اللهُ تعالى في قَلْبِهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وتَغَلْغَلَ حُبُّهُ واخْتَلَطَ بِرُوحِهَا ودَمِهَا.

بَل وقَدَّرَتْ نِعْمَةَ اللهِ عزَّ وجلَّ عَلَيهَا، حِينَ فَتَحَتْ عَينَيْهَا في مَرَضِهَا لِتَجِدَ رَحْمَةَ اللهِ للعَالَمِينَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَحُوطُهَا بِعَطْفِهِ وحَنَانِهِ، ولا يَمْلِكُ لَهَا إلا الدُّعَاءَ الذي يَرْجُو من اللهِ تعالى قَبُولَهُ.

حَانَتْ سَاعَةُ الفِرَاقِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد وَقَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى جِوَارِ زَوجَتِهِ المَرِيضَةِ يَرعَاهَا ويُؤْنِسُهَا، وَقَفَ إلى جِوَارِهَا لَحْظَةَ الاحْتِضَارِ، وبِجِوَارِهِ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها التي تَرَى مَا تَرَى في أُمِّهَا رَضِيَ اللهُ عَنها، والدُّمُوعُ تَنْهَمِرُ من عَينَيْهَا وهيَ تَنْظُرُ إِلَيهَا من بَعِيدٍ، والكُلُّ لا يَمْلِكُ من الأَمْرِشَيْئَاً.

وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾. وصَدَقَ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ حِينَ قَالَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (وَأَحْبِبْ مَن أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ) رواه الحاكم عَن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

أيُّها الإخوة الكرام: حَانَتْ سَاعَةُ الفِرَاقِ للسَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، وهيَ آمِنَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ، وكَيفَ لا تَكُونُ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً وهيَ المُبَشَّرَةُ بِبَيْتٍ في الجَنَّةِ بَعدَ السَّلامِ عَلَيهَا من رَبِّهَا؟

روى الشيخان عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ.

كَيفَ لا تَكُونُ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً وهيَ المَرْضِيَّةُ عِنْدَ زَوجِهَا سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ»؟ رواه الترمذي عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.

أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَتْ سَكَرَاتُ المَوْتِ لأُمِّنَا السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها، وأَسْلَمَتْ رُوحَهَا إلى بَارِئِهَا، وتَحَقَّقَ قَولُ اللهِ تعالى فِيهَا: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.

لقد أَسْلَمَتْ رُوحَهَا إلى بَارِئِهَا وهيَ بَينَ يَدَيِ الحَبِيبِ الأَعْظَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وبَينَ يَدَي فَاطِمَةَ وزَينَبَ وأُمِّ كُلثُومَ رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ.

لقد أَسْلَمَتْ رُوحَهَا إلى بَارِئِهَا وهيَ رَاضِيَةٌ مَرْضِيَّةٌ عِنْدَ اللهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وحَزِنَ عَلَيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُزْنَاً شَدِيدَاً يُفَتِّتُ الأَكْبَادَ، بَل من شِدَّةِ حُزْنِهِ عَلَيهَا نَزَلَ بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ إلى قَبْرِهَا، وكَانَ أَوَّلَ قَبْرٍ يَنْزِلُ إِلَيهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَدْفِنَهَا بِيَدَيهِ الشَّرِيفَتَينِ.

مَنْظَرٌ تَتَفَطَّرُ لَهُ القُلُوبُ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد رَحَلَتْ هذهِ السَّيِّدَةُ العَظِيمَةُ التي لَنْ يَتَكَرَّرَ على ظَهْرِ الأَرضِ مِثْلُهَا، بَل لَمْ تَعْرِفِ الأَرضُ بَعْدَهَا مِثْلَهَا أَبَدَاً، رَحَلَتْ هذهِ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ، والسَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها تَبْكِي من ذلكَ المَوقِفِ المَهِيبِ الذي تَجَمَّعَ لَهُ كُلُّ المُسْلِمِينَ الذي أَسْلَمُوا في مَكَّةَ، والْتَفُّوا حَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقُلُوبُهُم تَتَفَطَّرُ على  مَا أَصَابَ نَبِيَّهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَهُم يَعْرِفُونَ مَكَانَتَهَا عِنْدَهُ، وحُبَّهُ لَهَا، وتَقْدِيرَهُ العَظِيمَ لِمَا قَامَتْ بِهِ، وشَيَّعُوهَا إلى قَبْرِهَا الشَّرِيفِ في غَايَةٍ من الحُزْنِ والأَسَى.

وهُنَاكَ في الحَجُونِ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في قَبْرِهَا، ولَمْ تَكُنْ صَلاةُ الجَنَازَةِ قَد شُرِعَتْ، وَوَسَّدَهَا في قَبْرِهَا بِيَدَيهِ الشَّرِيفَتَينِ، ودَعَا لَهَا كَثِيرَاً.

فَارَقَتْ ومَا فَارَقَتْ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد فَارَقَتْ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنها الدُّنيَا بِجَسَدِهَا، إلا أَنَّهَا مَا فَارَقَتْ قَلبَ حَبِيبِنَا وسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَيفَ يُفَارَقُ حُبُّهَا وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا»؟ رواه الإمام مسلم عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: تَعَالَوا لِنَتَدَبَّرَ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾. ولنَتَدَبَّرْ مَا قَدَّمَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ ومَا تَرَكَتْ من أَثَرٍ.

ثمَّ لِنُفَكِّرْ ماذا قَدَّمْنَا لإسْلامِنَا، وماذا سَنَتْرُكُ من ذِكْرٍ بَعدَ مَوْتِنَا؟ لِيُفَكِّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، هَل مَوْتُهُ رَاحَةٌ مِنهُ أَم رَاحَةٌ لَهُ؟ هذا أولاً.

ثانياً: كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ سُنَّةَ اللهِ تعالى في الحَيَاةِ الدُّنيَا أَنَّهُ لا يُبْقِي شَيْئَاً على حَالِهِ، الفَرَحُ يَعْقُبُهُ الحُزْنُ، والحُزْنُ يَعْقُبُهُ الفَرَحُ، فإذا جَاءَ الحُزْنُ فَتَذَكَّرْ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلاً﴾.

فإذا رَأَينَا أَنفُسَنَا في هَمٍّ وغَمٍّ وكَربٍ فَلْنَصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلاً.

وإذا رَأَينَا أَنفُسَنَا في فَقْدٍ لِبَعْضِ نِعَمِ اللهِ عَلَينَا فَلْنَصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلاً.

وإذا رَأَينَا أَنفُسَنَا في مَرَضٍ وبَلاءٍ فَلْنَصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلاً.

وإذا رَأَينَا القَتْلَ والتَّشْرِيدَ والدَّمَارَ فَلْنَصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلاً.

فَمَا بَعدَ الصَّبْرِ إلا البَشَائِرُ، ومَا بَعدَ الضِّيقِ إلا الفَرَجُ، فالصَّبْرُ مِفْتَاحٌ للفَرَجِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا من الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، ومن الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلاءِ، ومن الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ، وفَرِّجْ عَنَّا عَاجِلاً غَيرَ آجِلٍ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الخميس: 13/جمادى الثانية /1435هـ، الموافق: 2/نيسان / 2015م