14ـ عهود رمضانية: العهد الرابع عشر: ذكر الموت1

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فيا أيها الإخوة الكرام: في هذا اليوم المبارك نقطع على أنفسنا عهداً أن نكثر من ذكر الموت، امتثالاً لأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام الترمذي عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (استكثروا ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكره أحد في ضيق ألا وسَّعه، ولا ذكره في سعة إلا ضيّقها عليه).

بعض الناس يظن أنه إذا أكثر من ذكر الموت فإنه يتعقّد، وأن حياته تضطرب ويشمئز منها، هذا في الحقيقة لا يكون إلا في العبد العاصي المذنب المصرِّ على الخطأ، أما العبد الذي يكثر من الطاعات فإنه يكثر من ذكر الموت، لأن الموت في الحقيقة ليس عدماً، وإنما هو انتقال من دار الفناء إلى دار البقاء. ولذلك فالعاقل هو الذي يكثر من ذكر الموت، لأنك بذكر الموت تستقيم أمورك وتستغل أوقات عمرك، وتحسن أخلاقك، وتنصف الآخرين من نفسك، وتكون وقافاً عند حدود الله عز وجل.

وتدبروا أيها الإخوة قول الله عز وجل: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون}، هل هؤلاء من أهل الإنصاف؟ من يكيل بمكيالين ليس من أهل الإنصاف، من يعامل من يحب معاملةً، ويعامل من يبغض معاملة أخرى ليس من أهل الإنصاف، وهؤلاء يقول الله تعالى فيهم: {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين}. هذا الإنسان لو أنه ظن وترجح عنده أن هناك يوم قيامة لاستقام أمره، فكيف لو أيقن بأنه واقف بين يدي الله عز وجل؟ ولذلك فالعاقل يصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي يرويه الإمام الطبراني بإسناد حسن عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله، من أكيس الناس وأحزم الناس؟ ـ والكيِّس هو الفطن الذكي العاقل ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثرهم ذكراً للموت وأكثرهم استعداداً للموت، أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة). هل نذكر الموت؟ الجواب: ندفن الموتى ونمشي في الجنائز ونصل المقبرة والضحك والغيبة والنميمة والسخرية، ونتكلم حتى على الميت! ولا نعتبر، هذا واقع نعيشه في مجتمعنا، ندفن الموتى ونراهم بأبصارنا ونهيل التراب عليهم، ونحن على ما نحن عليه من الغفلة عن حقيقة هذا الموت. أما السلف الصالح رضوان الله عليهم فكانوا يمشون خلف الجنازة بتؤدة ووقار ويعتبرون، حتى أن رجلاً كان يمشي خلف جنازة وإذا به يرفع صوته: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، فقال له سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لا غفر الله لك، اسكت يا أخي دعنا نعتبر، تفكر بحالنا ونحن نمشي إلى المقبرة، وعندما نصل ندعو له بالمغفرة والتثبيت والرحمة، أمّا وأنت الآن تمشي فاعتبر بها.

ولذلك كان يقول سيدنا الحسن البصري رحمه الله: ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت. كلنا سيموت، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون}.

لو سألت نفسي الآن وسألتكم: من عنده استعداد للموت؟ لو جاءك ملك الموت الآن فهل أنت مستعد للدخول على الله؟ ما معنى الاستعداد للموت؟ الاستعداد للموت يعني أن تكون ذمتك بريئة بينك وبين الله عز وجل، وبينك وبين أبناء جنسك من كل الطبقات. لذلك هؤلاء المستعدون للموت قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)، لأن هذا العبد يعيش في الدنيا وهو يكثر من ذكر هادم اللذات، فيحاول أن يخرج من الدنيا مظلوماً وليس ظالماً، أما الرجل الظالم الذي لا يُضحك عليه ويأخذ حقه وثلثي الباطل معه فهذا ذهب بخسارة الدنيا وخسارة الآخرة، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِين * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِين} مثل هذا الرجل عندنا نقول هو مجنون، ولكن في ميزان الشرع هو من أعقل الناس، لأن من ارتبط بالآخرة يحاول أن يكون مظلوماً لا ظالماً، كن عبد الله المظلوم ولا تكن عبد الله الظالم، كن وقافاً عند حدود الشريعة، طالب بحقك بإنصاف، فإن رأيت بأنك ستقع في الظلم فابتعد عن الظلم استعداداً لما بعد الموت.

لذلك نحن لا نمكّن أنفسنا من بعضنا البعض في النصح، سيدنا عمر رضي الله عنه كان يمكِّن الناس من نصحه، ولذلك يُذكر أنه كان ماشياً في كوكبة من أصحابه فاستوقفته امرأة عجوز وأخذت بخطام الراحلة فقالت: يا عمر، اتق الله، ـ نادته باسمه، هل هذا قلة أدب؟ هل سينادينا ربنا عز وجل غداً: يا دكتور أو يا كذا؟ بل سينادينا بأسمائنا، وإذا نادانا أحد باسمنا دون الوصف وإذا بنا نغضب، لأن الأنا الفرعونية معجونة فينا عجناً ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ، قالت المرأة: (يا عمر عهدتك وأنت تسمى عُميراً في سوق عكاظ تصارع الصبيان، فلم تذهب الأيام والليالي حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب منه البعيد، ومن خاف الموت فبكى عمر رضي الله عنه. فقال الجارود: هيه فقد أكثرت وأبكيت أمير المؤمنين. فقال له عمر رضي الله عنه وعنها: (أوما تعرف هذه؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من سمائه، فعمر والله أجدر أن يسمع لها. إنها خولة التي قال الله فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}) [أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة]، لا تفوِّت على نفسك فرصة في الطاعة وفي التوبة إلى الله، ولا تفوِّت على نفسك فرصة في الإقبال على الله، ولا تفوِّت على نفسك أن تعيد الحقوق إلى أصحابها، ولا تفوِّت على نفسك الفرصة أن تعتذر ممن أساء إليك. ثم قالت: (يا عمر من أيقن الحساب خشي العذاب)، ومن خاف العذاب كان وقافاً عند حدود الشريعة.

يا من يظلم زوجته، يا من لا يحسب الحساب ليوم القيامة، ولا يكون وقافاً عند حدود الله، ويظلم هذه الأسيرة عنده، أما سمعت قول الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أما تخاف من العبد أن يشكوك إلى الله عز وجل؟ هل عندك استعداد أن يشكيك لله؟ لا لسلطان ولا لحاكم.

أيها الإخوة: هل نستطيع أن نقطع على أنفسنا عهداً أن نكثر من ذكر الموت، وليس المقصود من إكثار ذكر الموت أن تعلم أنك ستموت وإذا بك تسعى لئلا تفوت الفرصة على نفسك من الدنيا، وإذا بك تجمع من الدنيا من حلالها ومن حرامها، ولكن المقصود من الإكثار من ذكر الموت أن تكون وقافاً عند حدود الشريعة، أسأل الله أن يجعلني الله وإياكم ممن يكثر من ذكر الموت، لننصف الآخرين من أنفسنا، ولعلنا أن نرجع مرة ثانية إلى ذكر الموت في الغد إن أحيانا الله عز وجل، والحمد لله رب العالمين.