27ـ أشراط الساعة: شهادة الزور

 

 أشراط الساعة

27ـ شهادة الزور

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ السَّاعَةِ التي حَدَّثَ عَنهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، والتي وَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ، بَل هيَ في ازْدِيَادٍ، شَهَادَةُ الزُّورِ في القَضَاءِ وغَيْرِهِ، وكِتْمَانُ شَهَادَةِ الحَقِّ.

روى الإمام أحمد عَن عَبْدِ اللهِ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تَسْلِيمُ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوُّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَكِتْمَانُ شَهَادَةِ الْحَقِّ، وَظُهُورُ الْقَلَمِ».

خُطُورَةُ شَهَادَةِ الزُّورِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وَهَبَ لَنَا جَارِحَةً كُبْرَى، وآلَةً عُظْمَى، لَهَا مَا لَهَا من الفَوَائِدِ العِظَامِ، والغَايَاتِ الجِسَامِ، لَكِنَّهَا مَعَ ذلكَ تُمَثِّلُ الخَطَرَ الفَعَّالَ على الإِنسَانِ في الحَالِ والمَآلِ، تِلكَ الجَارِحَةُ هيَ جَارِحَةُ اللِّسَانِ، فَكَم أَثَارَ من عَدَاوَةٍ، وكَم أَعْقَبَ من شَقَاوَةٍ، وكَم أَفْسَدَ شَمْلَ الأَحِبَّةِ، وكَم أَهَانَ صَاحِبَهُ، وأَوجَبَ لَهُ النَّارَ، وكَم حَمَّلَهُ من الآثَامِ والأَوْزَارِ.

أيُّها الإخوة الكرام: اللِّسَانُ لَهُ آفَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَمِن أَعْظَمِ آفَاتِهِ الوُقُوعُ في الشِّرْكِ، فَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَكْفُرُ الإِنسَانُ، ويُخَلَّدُ بَعدَهَا في النِّيرَانِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾.

من آفَاتِهِ التَّسَرُّعُ في إِطْلاقِ الفَتَاوَى دُونَ دِرَايًةٍ ولا فَهْمٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.

ومن آفَاتِ اللِّسَانِ وأَخْطَارِهِ شَهَادَةُ الزُّورِ، فَهِيَ مِن أَسْوَءِ آفَاتِهِ، عَدَلَتْ أو كَادَتْ أن تَعْدِلَ الشِّرْكَ باللهِ تعالى، روى الترمذي عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَامَ خَطِيبَاً فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ إِشْرَاكَاً باللهِ».

ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾.

الأَصْلُ في الشَّهَادَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ أَمَرَنَا بالشَّهَادَةِ، وذلكَ من أَجْلِ إِحْقَاقِ الحَقِّ، وإِبْطَالِ البَاطِلِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾.

فالأَصْلُ في الشَّهَادَةِ أن تَكُونَ سَنَدَاً لِجَانِبِ الحَقِّ، ومُعِينَةً للقَضَاءِ على إِقَامَةِ العَدْلِ، والحُكْمِ على الجُنَاةِ الذينَ تَنْحَرِفُ بِهِم أَهْوَاؤُهُم وَشَهَواتُهُم، فَيَظْلِمُونَ أو يَبْغُونَ، أو يَأْكُلونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بالبَاطِلِ، فإذا تَحَوَّلَتِ الشَّهَادَةُ عن وَظِيفَتِهَا، كَانَت سَنَدَاً للبَاطِلِ، وَمُضَلِّلَةً للقَضَاءِ، حَتَّى يُحْكَمَ بِغَيرِ الحَقِّ اسْتِنَادَاً إلى مَا تَضَمَّنَتْهُ من إِثْبَاتٍ، فَإِنَّهَا تَحْمِلُ حِينَئِذٍ إِثْمَ جَرِيمَتَينِ كُبْرَيَينِ في آنٍ وَاحِدٍ.

الجَرِيمَةُ الأُولَى: عَدَمُ تَأْدِيَتِهَا وَظِيفَتِهَا الطَّبِيعِيَّةِ الأُولَى.

الجَرِيمَةُ الثَّانِيَةُ: قِيَامُهَا بِجَرِيمَةٍ، تُهْضَمُ فِيهَا الحُقُوقُ، وَيُظْلَمُ فِيهَا البُرَآءُ، وَيُسْتَعَانُ بِهَا على الإِثْمِ والبَغْيِ والعُدْوَانِ.

أيُّها الإخوة الكرام: شَهَادَةُ الزُّورِ هيَ الشَّهَادَةُ بالكَذِبِ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إلى البَاطِلِ، من إِتْلافِ نَفْسٍ، أو أَخْذِ مَالٍ بِغَيرِ حَقٍّ، أو تَحْلِيلِ حَرَامٍ، أو تَحْرِيمٍ حَلالٍ.

شَاهِدُ الزُّورِ مُرْتَكِبٌ أَعْظَمَ الجَرَائِمِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ قَد ارْتَكَبَ أَعْظَمَ الجَرَائِمِ، وكُلُّ جَرِيمَةٍ مِنهَا يَسْتَحِقُّ عَلَيهَا العَذَابَ الأَلِيمَ يَومَ القِيَامَةِ، من هذهِ الجَرَائِمِ:

أولاً: الكَذِبُ والافْتِرَاءُ.

ثانياً: أَنَّهُ ظَلَمَ الذي شَهِدَ عَلَيهِ حَتَّى أَخَذَ بِشَهَادَتِهِ مَالَهُ وَعِرْضَهُ وَرُوحَهُ أَحْيَانَاً.

ثالثاً: أَنَّهُ ظَلَمَ الذي شَهِدَ لَهُ بِأَنْ سَاقَ إِلَيهِ المَالَ الحَرَامَ فَأَخَذَهُ بِشَهَادَتِهِ فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، مِصْدَاقَاً لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئَاً فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِن النَّارِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.

رابعاً: أَنَّهُ أَبَاحَ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى وَعَصَمَهُ من المَالِ والدَّمِ والعِرْضِ.

أيُّها الإخوة الكرام: شَهَادَةُ الزُّورِ من الكَبَائِرِ، بَل من أَكْبَرِ الكَبَائِرِ، روى الشيخان عَن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ـ ثَلَاثَاً ـ الْإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ـ أَوْ قَوْلُ الزُّورِ ـ».

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُتَّكِئَاً فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: تَصَوَّرُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وهوَ المُبَلِّغُ عن اللهِ تعالى، القَائِمُ بِأَمْرِ اللهِ تعالى، النَّاصِحُ لِعِبَادِ اللهِ تعالى، تَصَوَّرُوهُ وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ من الكَبَائِرِ، وتَصَوَّرُوهُ كَأَنَّهُ أَمَامَكُم كَانَ مُتَّكِئَاً ثمَّ جَلَسَ عِنْدَ ذِكْرِ شَهَادَةِ الزُّورِ، وتَصَوَّرُوا أَصْحَابَهُ الكِرَامَ عِنْدَمَا قَالُوا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

أيُّها الإخوة الكرام: شَهَادَةُ الزُّورِ كُلُّهَا ضَرَرٌ، ولا خَيرَ فِيهَا، فَهِيَ سَبَبٌ لِسَخَطِ الجَبَّارِ تَبَارَكَ وتعالى، وسَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ.

فِيهَا ضَيَاعُ حُقُوقِ النَّاسِ وظُلْمُهُم.

بِهَا تُطْمَسُ مَعَالِمُ العَدْلِ والإِنْصَافِ، وفي ذلكَ خَرَابُ الدِّيَارِ.

وهيَ تُعِينُ الظَّالِمَ على ظُلْمِهِ، ومن أَعَانَ ظَالِمَاً على ظُلْمِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ.

وبِهَا يُعْطَى لِغَيْرِ صَاحِبِ الحَقِّ مَا لا يَحِلُّ لَهُ، حَتَّى يَكُونَ وَقُودَاً لَهُ إلى نَارِ جَهَنَّمَ والعِيَاذُ باللهِ تعالى.

وهيَ سَبَبٌ عَظِيمٌ لِتَقْوِيضِ أَرْكَانِ الأَمْنِ وزَعْزَعَةِ الاسْتِقْرَارِ.

كَمَا هيَ سَبَبٌ لِزَرْعِ الأَحْقَادِ والضَّغَائِنِ في القُلُوبِ.

وهيَ سَبَبٌ يَعْصِفُ بالمُجْتَمَعِ ويُدَمِّرُهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: من أَسبَابِ الأَزمَةِ التي تَعْصِفُ مُجْتَمَعَنَا اليَومَ شَهَادَةُ الزُّورِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ؛ وحَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 3/رجب /1436هـ، الموافق: 22/نيسان / 2015م