434ـ خطبة الجمعة: لا يخيب مع الله رجاء

 

 434ـ خطبة الجمعة: لا يخيب مع الله رجاء

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، المَعْبُودُ بِحَقٍّ هوَ اللهُ تعالى، جَمِيعُ الكَائِنَاتِ تَقْصِدُهُ، وجَمِيعُ المَخْلُوقَاتِ تَعْنُو لِجَلالِ هَيْبَتِهِ، إذا خَافَ العَبدُ الْتَجَأَ إِلَيهِ، وإذا افْتَقَرَ اتَّجَهَ إِلَيهِ، جَمِيعُ القُلُوبِ مَفْطُورَةٌ على التَّوَجُّهِ إِلَيهِ إنْ شَاءَتْ وإِنْ أَبَتْ، نَعَمْ في الرَّخَاءِ يَعْلُوهَا الرَّانُ، ولَكْنْ إذا نَزَلَتْ بِهَا النَّوَازِلُ، وحَلَّتْ بِهَا المَصَائِبُ تَوَجَّهَتْ إِلَيهِ، وأَعْرَضَتْ عَمَّا سِوَاهُ.

سَأَلَ رَجُلٌ الإِمَامَ جَعْفَرَ الصَّادِقَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَن اللهِ.

فَقَالَ: أَلَمْ تَرْكَبِ البَحْرَ؟

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: فَهَلْ حَدَثَ لَكَ مَرَّةً أَنْ هَاجَتْ بِكُمُ الرِّيحُ عَاصِفَةً؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: وَانْقَطَعَ أَمَلُكَ من المَلَّاحِينَ وَوَسَائِلِ النَّجَاةِ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَهَلْ خَطَرَ في بَالِكَ وانْقَدَحَ في نَفْسِكَ أَنَّ هُنَاكَ مَن يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَكَ إِنْ شَاءَ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَذَلِكَ هُوَ اللهُ.

ومِصْدَاقُ هذا قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورَاً﴾.

لا يَخِيبُ مَعَ اللهِ رَجَاءٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ، اللهُ جَلَّ جَلالُهُ لا يَخِيبُ مَعَهُ رَجَاءٌ، ولا يَضِيعُ عِنْدَهُ سَعْيٌ، ولا يُرَدُّ عَن بَابِهِ وَاقِفٌ، اللهُ جَلَّ جَلالُهُ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، ومَفْزِعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، من تَكَلَّمَ من عِبَادِهِ سَمِعَ نُطْقَهُ، ومن سَكَتَ مِنهُم عَلِمَ سِرَّهُ، ومن عَاشَ مِنهُم فَعَلَيهِ رِزْقُهُ، ومن مَاتَ مِنهُم فَإِلَيهِ مُنْقَلَبُهُ.

السَّعِيدُ فِينَا من تَوَجَّهَ إلى اللهِ تعالى وَحْدَهُ بالرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ، والخَوْفِ والرَّجَاءِ والحُبِّ، السَّعِيدُ مَن عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ، السَّعِيدُ من تَوَجَّهَ إلى اللهِ وَحْدَهُ، السَّعِيدُ من الْتَجَأَ إلى اللهِ تعالى وَحْدَهُ، السَّعِيدُ من اعْتَزَّ باللهِ وَحْدَهُ، السَّعِيدُ من تَوَكَّلَ على اللهِ وَحْدَهُ، السَّعِيدُ من أَحَبَّ اللهَ تعالى وَحْدَهُ، السَّعِيدُ من وَحَّدَ اللهَ تعالى فَأَكْثَرَ من قَوْلِ: لا إِلَهَ إلا اللهُ، حَتَّى يَسْتَقِرَّ مَعْنَاهَا في قَلْبِهِ.

لا تُظْلَمْ مَعَ لا إِلَهَ إلا اللهُ:

يَا عِبَادَ اللهِ، مَا خُلِقْنَا في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا إلا لِمَعْرِفَةِ لا إِلَهَ إلا اللهُ، من عَرَفَهَا وتَحَقَّقَ بِمَعْنَاهَا فَإِنَّهُ لا يَشْقَى ولا يُظْلَمُ، ومن أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بهذهِ الكَلِمَةِ وشَرَحَ صَدْرَهُ لَهَا فَهُوَ من أَسْعَدِ خَلْقِ اللهِ تعالى، ولَو عَصَرَتْهُ هذهِ الأَزْمَةُ عَصْرَاً، ولَو خَنَقَتْهُ خَنْقَاً، ولَو مَزَّقَتْهُ تَمْزِيقَاً.

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا مَن تَتَمَزَّقُ قُلُوبُكُم في هذهِ الأَزْمَةِ على مَا أَصَابَكُم مِنهَا من مَصَائِبَ دُنْيَوِيَّةٍ، لا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا مَا دُمْتُمْ تَنَامُونَ على شَهَادَةِ أنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ، وتَسْتَيْقِظُونَ عَلَيهَا، لا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا إذا خَرَجْتُمْ من هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا بِكَلِمَةِ لا إِلَهَ إلا اللهُ، فَإِنَّكُم لا تُظْلَمُونَ مَعَهَا يَومَ القِيَامَةِ، إذا خُتِمَ لَكُم عَلَيهَا.

روى الترمذي عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلَّاً، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئَاً؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟

فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ.

فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟

فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ.

فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ.

فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ.

فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟!

فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ.

فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ».

السَّعَادَةُ الحَقِيقِيَّةُ:

يَا عِبَادَ اللهِ، السَّعَادَةُ الحَقِيقِيَّةُ عِنْدَ الإِنسَانِ المُؤْمِنِ هيَ بالإِيمَانِ المُقَيَّدِ بِمَنْهَجِ اللهِ تعالى، ولَيْسَتِ السَّعَادَةُ عِنْدَهُ بِجَمْعِ مَالٍ وصِحَّةٍ وعَافِيَةٍ وجَاهٍ ومَنْزِلَةٍ، لأَنَّ هذهِ الأُمُورَ بِدُونِ إِيمَانٍ شَقَاءٌ.

السَّعَادَةُ الحَقِيقِيَّةُ هيَ سَعَادَةُ الإِيمَانِ، ولا يَشْعُرُ بهذهِ السَّعَادَةِ إلا مَن تَغَلْغَلَ حُبُّ اللهِ تعالى في قَلْبِهِ ونَفْسِهِ وفِكْرِهِ، فالذي يَمْلِكُ السَّعَادَةَ لابْنِ آدَمَ هوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ.

يَا عِبَادَ اللهِ، اِخْتَلَفَ رَجُلٌ مَعَ زَوْجَتِهِ، فَقَالَ لَهَا: لأُشْقِيَنَّكِ.

فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ في هُدُوءٍ: لا تَسْتَطِيعُ.

فَقَالَ لَهَا: كَيفَ ذلكَ؟

قَالَتْ: لَو كَانَتِ السَّعَادَةُ في مَالٍ لَحَرَمْتَنِي مِنهُ، أو في حُلِيٍّ لَمَنَعْتَهَا عَنِّي، إِنَّ سَعَادَتِي في شَيْءٍ لا تَمْلِكُهُ أَنْتَ ولا أَحَدٌ من النَّاسِ،

قَالَ لَهَا: أَينَ تَكْمُنُ سَعَادَتُكِ؟

قَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ سَعَادَتِي في إِيمَانِي، وإِيمَانِي في قَلْبِي، وقَلْبِي لا سُلْطَانَ لأَحَدٍ عَلَيهِ غَيْرُ رَبِّي.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، كَم هوَ الفَارِقُ عَظِيمٌ بَيْنَ مَن يَعِيشُ للدُّنيَا فَقَط، وبَيْنَ مَن يَعِيشُ وهوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ تعالى قَد اسْتَخْلَفَهُ في الأَرْضِ وأَمَرَهُ بِعِمَارَتِهَا، لا بِخَرَابِهَا، وأَمَرَهُ بالْتِزَامِ مَنْهَجِ اللهِ تعالى فِيهَا، وأَنَّهُ مُنْقَلِبٌ إلى اللهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ، الإِيمَانُ باللهِ تعالى، والإِيمَانُ بالقَضَاءِ والقَدَرِ هوَ بَابُ السَّعَادَةِ الأَعْظَمُ، وهوَ مِفْتَاحُ هذا البَابِ.

اللَّهُمَّ يَا مَولانَا أَسْعِدْنَا بِمَعْرِفَتِكَ، وشَرِّفْنَا بِطَاعَتِكَ، ولا تُشْقِنَا بِمَعْصِيَتِكَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 12/رجب /1435هـ، الموافق: 1/أيار / 2015م