103ـ كلمة شهر رمضان 1436هـ: هكذا العلماء

 

 103ـ كلمة شهر رمضان 1436هـ: هكذا العلماء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ في تَارِيخِ العُظَمَاءِ لَخَبَرَاً، وإِنَّ في سِيَرِ العُلَمَاءِ لَعِبَرَاً، وإِنَّ في أَحْوَالِ النُّبَلاءِ لَمُدَّكَرَاً.

وهذهِ الأُمَّةُ أُمَّةُ أَمْجَادٍ وحَضَارَةٍ، وتَارِيخُهَا تَارِيخُ عِزٍّ وأَصَالَةٍ، وقد ازْدَانَ سِجِلُّهَا الحَافِلُ عَبْرَ التَّارِيخِ بِكَوْكَبَةٍ من الأَئِمَّةِ العِظَامِ، والعُلَمَاءِ الأَفِذَّاءِ الكِرَامِ، وهُم من مِنَّةِ اللهِ تعالى على الأُمَّةِ، يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللهِ المَوْتَى، ويُبَصِّرُونَ بِهِ أَهْلَ العَمَى، ويُرْشِدُونَ مَن ضَلَّ مِنهُم إلى الهُدَى، فَكَمْ من قَتِيلٍ لإبْلِيسَ قَد أَحْيَوْهُ، وكَم من ضَالٍّ تَائِهٍ قَد هَدَوْهُ، يَقْتَبِسُونَ من نُورِ الوَحْيِ، ويَسِيرُونَ على مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، فَكَمْ نَفَعَ اللهُ بِهِمُ البِلادَ، وكَمْ هَدَى بِهِمُ العِبَادَ.

الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ كَالشَّمْسِ للدُّنيَا:

أيُّها الإخوة الكرام: من أَجَلِّ هؤلاءِ الأَئِمَّةِ، وأَفْضَلِ هؤلاءِ العُلَمَاءِ، إِمَامٌ فَذٌّ، وعَالِمٌ جَهْبَذٌ، قَلَّ أَنْ يَجُودَ الزَّمَانُ بِمِثْلِهِ، إِنَّهُ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، هوَ مَن عَرَفَتْهُ الدُّنيَا، وذَاعَ ذِكْرُهُ، وشَاعَ صِيتُهُ في الآفَاقِ، إِمَامَاً عَالِمَاً، فَقِيهَاً مُحَدِّثَاً، مُجَاهِدَاً صَابِرَاً، لا يَخَافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.

قَالَ عَنهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: كَانَ الشَّافِعِيُّ كَالشَّمْسِ للدُّنيَا، وَكَالعَافِيَةِ للنَّاسِ، فَانْظُرْ هَلْ لِهَذَيْنِ من خَلَفٍ، أَو مِنهُمَا عِوَضٌ.

وقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَويه: لَقِيَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: تَعَالَ أُرِيكَ رَجُلَاً لَمْ تَرَ عَيْنَاكَ مِثْلَهُ؛ فَأَرَانِي الشَّافِعِيَّ.

قَالَ: فَتَنَاظَرْنَا في الحَدِيثِ، فَلَمْ أَرَ أَعْلَمَ مِنهُ.

ثمَّ تَنَاظَرْنَا في الفِقْهِ، فَلَمْ أَرَ أَفْقَهَ مِنهُ

ثمَّ تَنَاظَرْنَا في القُرْآنِ، فَلَمْ أَرَ أَقْرَأَ مِنهُ.

ثمَّ تَنَاظَرْنَا في اللُّغَةِ، فَوَجَدْتُهُ بَيْتَ اللُّغَةِ، وَمَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ قَطُّ.

قَالَ: فَلَمَّا فَارَقْنَاهُ أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ من أَهْلِ الفَهْمِ بالقُرْآنِ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ في زَمَانِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ قَد أُوتِيَ فَهْمَاً في القُرْآنِ.

ويَقُولُ عَنهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَا أَحَدٌ مَسَّ مِحْبَرَةً ولا قَلَمَاً، إلا وللشَّافِعِيِّ في عُنُقِهِ مِنَّةٌ، ولولا الشَّافِعِيُّ مَا عَرَفْنَا فِقْهَ الحَدِيثِ، وَكَانَ الفِقْهُ قَفْلَاً على أَهْلِهِ، حَتَّى فَتَحَهُ اللهُ بالشَّافِعِيِّ.

مَن لَمْ تُعِزَّهُ التَّقْوَى فلا عِزَّ لَهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى من أَهْلِ العِبَادَةِ والتَّقْوَى، حِينَ أَرَادَ الرَّحِيلَ إلى مِصْرَ، قَالَ لَهُ بَعْضُ مُعَاصِرِيهِ: إِنْ عَزَمْتَ أَنْ تَسْكُنَ هذا البَلَدَ ـ يَعْنِي مِصْرَ ـ فَلْيَكُنْ لَكَ مَجْلِسٌ من السُّلْطَانِ فَتُعَزَّزَ، وَلْيَكُنْ لَكَ قُوتُ سَنَةٍ!

فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَن لا تُعِزُّهُ التَّقْوَى فَلَا عِزَّ لَهُ، وَلَقَد وُلِدْتُ بِغَزَّةَ، وَرُبِيتُ بالحِجَازِ، وَمَا عِنْدَنَا قُوتُ لَيْلَةٍ، وَمَا بِتْنَا جِيَاعَاً قَطُّ.

ويَقُولُ أَحَدُ تَلامِذَتِهِ حُسَينُ الكَرَابِيسِيُّ: بِتُّ مَعَ الشَّافِعِيِّ، فَكَانَ يُصَلِّي نَحْوَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَمَا رَأَيْتُهُ يَزِيدُ على خَمْسِينَ آيَةً، فَإِذَا أَكْثَرَ فَمِئَةً، وَكَانَ لا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلا سَأَلَ اللهَ لِنَفْسِهِ وللمُؤْمِنِينَ أَجْمَعِينَ، ولا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلا تَعَوَّذَ باللهِ مِنهُ، وَسَأَلَ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَلِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّمَا جُمِعَ لَهُ الرَّجَاءُ والرَّهْبَةُ مَعَاً.

وكَانَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى قَد قَسَّمَ لَيْلَهُ، يُصَلِّي ثُلُثَاً، ويَكْتُبُ ثُلُثَاً، ويَنَامُ ثُلُثَاً، وقَدِمَ مَرَّةً من أَحَدِ الأَسْفَارِ ومَعَهُ عِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ فَفَرَّقَهَا كُلَّهَا على المُحْتَاجِينَ والفُقَرَاءِ.

ويَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَن نَفْسِهِ:

يَا لَهْفَ نَفْسِي على مَالٍ أَجُودُ بِـه   ***   عَـلَى المُقِـلِّـيـنَ من أَهْـلِ المُـرُوءَاتِ

إِنَّ اعْتِذَارِي إلى مَن جَاءَ يَسْأَلُنِي   ***   مَا لَيْسَ عِنْدِي لَمِن إِحْدَى المُصِيبَاتِ

أيُّها الإخوة الكرام: لقد سَمِعَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى الحَدِيثَ الشَّرِيفَ الذي رواه الحاكم عَن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، شَرَفُ المُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عن النَّاسِ.

لقد كَانَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ في المَسْجِدِ الجَامِعِ، كَمَا يَقُولُ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَخْتِمُ في كُلِّ لَيْلَةٍ خَتْمَةً، فَإِذَا كَانَ في شَهْرِ رَمَضَانَ خَتَمَ في كُلِّ لَيْلَةٍ خَتْمَةً، وفي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً، فَكَانَ يَخْتِمُ في شَهْرِ رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةً.

هكذا قَضَى عُمُرَهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: على هذا النَّهْجِ القَوِيمِ، من الإِقْبَالِ على البَرِّ الرَّحِيمِ، والرِّبَاطِ والتَّأْلِيفِ، ودَعْوَةِ الخَلْقِ بالحُسْنَى والأُسْلُوبِ الحَكِيمِ، قَضَى الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ أَوْقَاتَهُ، وأَيَّامَ عُمُرِهِ، حَتَّى وَافَتْهُ المَنِيَّةُ، وذلكَ لِمَرَضٍ أَلَمَّ بِهِ.

دَخَلَ عَلَيهِ تِلْمِيذُهُ المُزَنِيُّ في اللَّيْلَةِ التي قُبِضَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟

قَالَ: أَصْبَحْتُ من الدُّنيَا رَاحِلَاً، وللإخْوَانِ مُفَارِقَاً، وَلِسُوءِ عَمَلِي مُلَاقِيَاً، وَلِكَأْسِ المَنِيَّةِ شَارِبَاً، وَعَلَى اللهِ وَارِدَاً، فَلَا أَدْرِي أَرُوحِي تَصِيرُ إلى الجَنَّةِ فَأُهَنِّيهَا، أمْ إلى النَّارِ فَأُعَزِّيهَا؛ ثمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَـذَاهِـبِـي    ***   جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِك سُلَّمَا

تَـعَـاظَـمَـنِي ذَنْـبِـي فَـلَـمَّا قَرَنْـتـه   ***   بِعَفْوِك رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْـظَـمَا

وَمَازِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَن الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ    ***   تَجُـودُ وَتَـعْـفُـو مِـنَّـةً وَتَكَرُّمَـا

وتُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى وهوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، رَحَلَ هذا الإِمَامُ مُخَلِّفَاً وَرَاءَهُ عِلْمَاً جَمَّاً انْتَفَعَتْ مِنهُ الدُّنيَا، وقَدَّمَ صَالِحَاً رَحِمَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً وَاسِعَةً.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: هَلْ لَنَا في هذا الإِمَامِ أُسْوَةٌ وقُدْوَةٌ، وخَاصَّةً من طَلَبَة العِلْمِ والعُلَمَاءِ؟

هَلْ نَتَذَكَّرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾؟

هَلْ نَتَذَكَّرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾؟

وهَلْ طَلَبَةُ العِلْمِ والعُلَمَاءُ يَتَذَكَّرُونَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/ رمضان /1435هـ، الموافق: 18/حزيران / 2015م

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة