16ـ أشراط الساعة: استباحة أكل الربا

 

 أشراط الساعة

16ـ استباحة أكل الربا

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي أَخبَرَ عَنهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والتي ظَهَرَتْ، ومَا زَالَتْ مُستَمِرَّةً إلى اليَومِ، بَل هيَ في ازدِيَادٍ، أَكْلُ الرِّبَا.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوسَطِ عَن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ يَظْهَرُ الرِّبَا، والزِّنَا، والخَمرُ».

المَالُ عَصَبُ الحَيَاةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ المَالَ في الحَيَاةِ الدُّنيَا هوَ عَصَبُهَا، وشِريَانُ المَعِيشَةِ للإِنسَانِ، وهوَ في نَظَرِ العُقَلاءِ وَسِيلَةٌ لِقَضَاءِ الحَاجَاتِ، وتَيسِيرِ أُمُورِ الحَيَاةِ، ولَيسَ غَايَةً من الغَايَاتِ، بِحَيثُ يُفنِي الإِنسَانُ حَيَاتَهُ في جَمْعِهِ وتَكْدِيسِهِ.

من هذا المُنطَلَقِ شَرَعَ اللهُ تعالى سُبُلاً لِكَسْبِهِ، ونَهَى عَن إِضَاعَتِهِ، كَمَا نَهَى عَن جَمْعِهِ بِطَرِيقٍ غَيرِ مَشرُوعَةٍ، ومن الطُّرُقِ غَيرِ المَشرُوعَةِ في جَمْعِهِ الرِّبَا، الذي حَرَّمَهُ الإِسلامُ، وعَدَّهُ كَبِيرَةً من كَبَائِرِ الذُّنُوبِ والآثَامِ، ولقد قَرَنَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالشِّرْكِ والسِّحْرِ وقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيرِ حَقٍّ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ».

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟

قَالَ: «الشِّرْكُ باللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ».

التَّحْذِيرُ من الرِّبَا:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَذَّرَ الإِسلامُ من الرِّبَا أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وبَيَّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ في القُرآنِ العَظِيمِ بِأَنَّهُ قَد أَعلَنَ حَرْبَهُ على آكِلِ الرِّبَا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾.

وأكَّدَ تَحْرِيمَ الرِّبَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مِنهَا:

روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دِرْهَمٌ رِباً يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً».

وروى الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَاباً، أَيسَرُهَا مِثلُ أن يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وإنَّ أَربَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ المُسلِمِ».

وروى الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ».

ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما أنَّهُ قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلاحَكَ لِلْحَرْبِ، قَالَ: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾. من تَفسِيرِ ابنِ أَبِي حَاتِمٍ.

وروى أبو داود في تَهْذِيبِ السُّنَنِ، عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا اِرْتَكَبَ الْيَهُود، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِم اللهِ بِأَدْنَى الْحِيَل». أي: بِأَسْهَلِهَا.

وروى الإمام البخاري عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ.

فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟

فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا».

وروى الإمام أحمد عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ». ثمَّ قَالَ: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».

الأَسبَابُ الدَّافِعَةُ لأَكْلِ الرِّبَا:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أَعظَمَ مَا يَدفَعُ الإِنسَانَ إلى أَكْلِ الرِّبَا هوَ ضَعْفُ إِيمَانِهِ باللهِ عزَّ وجلَّ، فإذا خَوِيَ القَلبُ من الإِيمَانِ اندَفَعَ صَاحِبُهُ إلى طَرْقِ أَبوَابِ الحَرَامِ، غَيرَ آبِهٍ بِعَظِيمِ جُرْمِهِ، ولا مُكْتَرِثٍ بِشَنَاعَةِ فِعْلِهِ.

ومن الأَسبَابِ التي تَدفَعُ الإِنسَانَ لأَكْلِ الرِّبَا ـ والعِيَاذُ باللهِ تعالى ـ عَدَمُ الرِّضَا عن اللهِ تعالى فِيمَا قُسِمَ لَهُ، ونَسِيَ آكِلُ الرِّبَا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيَّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾. وقَولَهُ تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾.

ونَسِيَ قَولَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رَوْعِي أَنَّ نفْساً لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلا بِطَاعَتِهِ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ونَسِيَ آكِلُ الرِّبَا قَولَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي واللهِ مَا آمُرُكُمْ إِلا بِمَا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ، وَلا أَنْهَاكُمْ إِلا عَمَّا نَهَاكُمُ اللهُ عَنْهُ، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَطْلُبُهُ رِزْقُهُ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ، فَإِنْ تَعَسَّرَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ فَاطْلُبُوهُ بِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عن الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: اِحْذَرُوا الرِّبَا بِكُلِّ صُوَرِهِ وأَشكَالِهِ، لأنَّ آكِلَ الرِّبَا يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مَجْنُونَاً يُخْنَقُ، وهوَ مَطْرُودٌ من رَحمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومُحَارَبٌ من اللهِ ورَسُولِهِ، ومَلعُونٌ من اللهِ ورَسُولِهِ، ودَلِيلٌ على خُبْثِ نَفسِهِ وسُوءِ طَوِيَّتِهِ، ودَلِيلٌ على سُوءِ خَاتِمَتِهِ.

جاءَ في التَّرغِيبِ والتَّرهِيبِ عَن عَوفِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكَ والذُّنُوبَ التي لا تُغْفَرُ، الغُلُولَ، فَمَن غَلَّ شَيئَاً أُتِيَ به يَومَ القِيَامَةِ، وأَكْلُ الرِّبَا، فَمَن أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَومَ القِيَامَةِ مَجْنُونَاً يَتَخَبَّطُ» ثمَّ قَرَأَ: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾.

وروى الطَّبَرَانِيُّ والأَصبَهَانِيُّ عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَأتِي آكِلُ الرِّبَا يَومَ القِيَامَةِ مُخَبَّلَاً ـ مَجْنُونَاً ـ يَجُرُّ شِقَّيْهِ» ثمَّ قَرَأَ: ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾. كذا في التَّرغِيبِ والتَّرهِيبِ.

اللَّهُمَّ أَغنِنَا بِحَلالِكَ عَن حَرَامِكَ، وبَطَاعَتِكَ عَن مَعصِيَتِكَ، وبِفَضْلِكَ عَمَّن سِوَاكَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 15/ربيع الثاني/1436هـ، الموافق: 4/شباط / 2015م