12ـ عهود رمضانية: العهد الثاني عشر: الصفح2

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فيا أيها الإخوة الكرام: اتخذنا على أنفسنا عهداً البارحة أن نتخلق بالصفح، ونمتثل قول الله عز وجل: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل}، وذكرنا قول سيدنا معاوية رضي الله عنه: عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال.

وعن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي يوماً: إن فضلاً الأنماطي جاء إليه رجل فقال: اجعلني في حلٍّ، فقال: لا أجعلك في حلٍّ أبداً، فتبسَّم أحمد بن حنبل، فلما مضت أيام قال أحمد بن حنبل لولده صالح: يا بني مررتُ بهذه الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، قال: فنظرت في تفسيرها فإذا هو: إذا كان يوم القيامة قام منادٍ فنادى: لا يقوم إلا من كان أجره على الله، قال: فلا يقوم إلا مَنْ عفا. قال رضي الله عنه: فجعلت الميت في حلٍّ من ضربه إياي، وما على رجل ألا يعذب الله بسببه أحداً. وهو رضي الله عنه قد عاش حياته في شدة ومحنة ومع ذلك عفا عمن أساء إليه فجعل مَنْ ضربه ممن مات في حلٍّ.

لا يدخل الجنة بغير حساب إلا من عفا، فهل ستعفو أم لا؟ ماذا تخسر إن لم يعذب الله بسببك أحداً من البشر؟ وأنت وقع أجرك على الله إن عفوت وصفحت.

يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل} قال: الرضا بغير عتاب. نحن نقول: العتاب بين الأحباب، العتاب بينهم ليتسامحوا، وهذا فاسمه صفح، ولكن الصفح الجميل ألا يكون هناك عتاب بينك وبين من أساء إليك، ولذلك ربنا عز وجل قال: {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}.

يقول الإمام الطبري رحمه الله: وإن تعفو أيها المؤمنون عمّا سلف منهم من صدّهم إياكم عن الإسلام والهجرة وتصفحوا لهم عن عقوبتكم إياهم على ذلك وتغفروا لهم غير ذلك من الذنوب، يعني: تتخلق بأخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وربنا يقول: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُون} الله سيجازيهم، ولكن أرحْ أنت نفسك، وهذا في حق الكافر، ومن باب أولى بينك وبين الإنسان المؤمن الموحد، لماذا يمتلئ قبلك حقداً وغيظاً عليه لا قدر الله، والله يدعوك ويناديك بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، فهل عندك استعداد أن يكون أجرك على الله بأن تعفو وتصفح؟ إن قلت: لي كذا من المال أريده، أقول: أتريد أجرك من مخلوق أم من خالق؟

سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعفو ويصفح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فإذا قام قمنا، فقام يوماً وقمنا معه حتى لما بلغ وسط المسجد أدركه رجل فجبذ بردائه من ورائه، وكان رداؤه خشناً فحمَّر رقبته فقال: يا محمد ـ مع أن الله تعالى أمرنا أن نتأدب مع صلى الله عليه وسلم فقال: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا} ـ احمل لي على بعيري هذين فإنك لا تحمل من مالك ولا من مال أبيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وأستغفر الله، لا أحمل لك حتى تقيدني مما جبذت برقبتي) فقال الأعرابي: لا والله لا أقيدك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات كل ذلك يقول: لا والله لا أقيدك، فلما سمعنا قول الأعرابي أقبلنا إليه سراعاً فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (عزمت على من سمع كلامي أن لا يبرح مقامه حتى آذن له)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من القوم: (يا فلان احمل له على بعير شعيراً وعلى بعير تمراً)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصرفوا) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له.

نحن نمر على مثل هذا الحديث الشريف، وعلى أخلاقه العالية صلى الله عليه وسلم، وعلى قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}، لمن هذه الأخلاق؟ هل لنتحدث بها في مجالسنا وتنتهي المسألة؟ أم لنتأسى بها، والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، ويقول أيضاً: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}، فهل غضب صلى الله عليه وسلم لنفسه؟ اجعل صفة الغضب فيك لله تعالى لا لحظ نفسك أو للدنيا.

هذا سيدنا علي رضي الله عنه كان في موقعة من المواقع، ضرب مشركاً وجثا على صدره، فتفل المشرك في وجهه، فقام عنه ولم يقتله، فسئل فقال: كنت أقتله لله، فخشيت عندما تفل في وجهي أن أقتله لنفسي، وأنا لا أهدم بنيان الله لنفسي.

يقول البعض: بهذا نتعلم المذلة والهوان، ونصبح ضحكة للناس، وإن عفوت سيتمادى، لأنه لا يفهم ويحتاج إلى تأديب، وربنا يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم}، يقول البعض: أحسنت إليه ولم يصبح ولياً حميماً، نقول: أنت يا مسكين غافل، هل تعلم بأنه نقل إليك حسناته ووضعها في دفتر حسناتك، وحمل أوزارك؟ أليس ولياً حميماً؟ فإما أن يكون ولياً حميماً فيصالحك ويعيد لك حقك، وإما أن تأخذ حسناته، وإن لم يكن له حسنات يأخذ عنك أوزارك في يوم يفر المرء فيه من أخيه، ويتمنى العبد أن تُحمل عنه خطيئة.

لذلك قال العلماء: إذا كنت مغتاباً فاغتب من تحب، لأنك تعطيه حسناتك.

لذلك أيها الإخوة: هذا العهد ينبغي أن نتبناه وأن نحفظ قول الله عز وجل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وأن نتخلق بأخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أكرمنا بذلك، والحمد لله رب العالمين.