30ـ مع الصحابة وآل البيت رضي: توديعه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ للحياة (6)

 

 مع الصحابة و آل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

30ـ توديعه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ للحياة (6)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَنِ الْفَضْلِ بن عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ مَوْعُوكَاً قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «خُذْ بِيَدِي يَا فَضْلُ».

فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمِنْبَرِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صِحْ فِي النَّاسِ» فَصِحْتُ فِي النَّاسِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرَهُ فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضَاً فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا لا يَقُولَنَّ رَجُلٌ إِنِّي أَخْشَى الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَلا وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِي وَلا مِنْ شَأْنِي، أَلا وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقَّاً إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ اللهَ وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ، أَلا وَإِنِّي لا أَرَى ذَلِكَ مُغْنِيَاً عَنِّي حَتَّى أَقُومَ فِيكُمْ مِرَارَاً».

ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ فِي الشَّحْنَاءِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَرُدَّهُ وَلا يَقُلْ فُضُوحُ الدُّنْيَا، وَإِنَّ فُضُوحَ الدُّنْيَا أَيْسَرُ مِنْ فُضُوحِ الآخِرَةِ».

فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي عِنْدَكَ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ.

قَالَ: «أَمَا إِنَّا لا نُكَذِّبُ قَائِلَاً وَلا نَسْتَحْلِفُهُ، فَبِمَ صَارَتْ لَكَ عِنْدِي؟».

قَالَ: تَذْكُرُ يَوْمَ مَرَّ بِكَ مِسْكِينٌ، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْهِ.

فَقَالَ: «ادْفَعْهَا إِلَيْهِ يَا فَضْلُ».

ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: عِنْدِي ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ كُنْتُ غَلَلْتُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ.

قَالَ: «وَلِمَ غَلَلْتَهَا؟»

قَالَ: كُنْتُ إِلَيْهَا مُحْتَاجَاً.

قَالَ: «خُذْهَا يَا فَضْلُ».

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ خَشِيَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئَاً فَلْيَقُمْ أَدْعُو لَهُ».

فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَكَذَّابٌ، وَإِنِّي لَمُنَافِقٌ، وَإِنِّي لَنَؤُومٌ.

قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ صِدْقَاً، وَإِيمَانَاً، وَأَذْهَبْ عَنْهُ النَّوْمَ إِذَا أَرَادَ».

ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَكَذَّابٌ، وَإِنِّي لَمُنَافِقٌ، وَمَا شَيْءٌ مِنَ الأَشْيَاءِ إِلا وَقَدْ أَتَيْتُهُ.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا هَذَا، فَضَحْتَ نَفْسَكَ.

فَقَالَ: «مَهْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فُضُوحُ الدُّنْيَا أَيْسَرُ مِنْ فُضُوحِ الآخِرَةِ».

ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَرْزُقْهُ صِدْقَاً، وَإِيمَانَاً، وَصَيِّرْ أَمَرَهُ إِلَى خَيْرٍ».

فَكَلَّمَهُمْ عُمَرُ بِكَلِمَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عُمَرُ مَعِي وَأَنَا مَعَهُ، وَالْحَقُّ بَعْدِي مَعَ عُمَرَ حَيْثُ كَانَ».

سَاعَةُ الاحْتِضَارِ:

أيُّها الإخوة الكرام: وفي آخِرِ يَوْمٍ من حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ السَّيِّدَةَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها بِأَنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ.

وَرَأَتْ فَاطِمَةُ مَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الكَرْبِ الشَّدِيدِ الذي يَتَغَشَّاهُ.

فَقَالَتْ: وَا كَرْبَ أَبَتَاهُ.

فَقَالَ لَهَا: «لَيْسَ على أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ».

وَدَعَا الحَسَنَ والحُسَيْنَ فَقَبَّلَهُمَا، وَأَوْصَى بِهِمَا خَيْرَاً، وَدَعَا أَزْوَاجَهُ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ.

وَطَفِقَ الوَجَعُ يَشْتَدُّ وَيَزِيدُ، وَقَد ظَهَرَ أَثَرُ السُّمِّ الذي أَكَلَهُ بِخَيْبَرَ حَتَّى كَانَ يَقُولُ: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الذي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فهذا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي ـ عِرقٌ فِي الظَّهرِ أو عِرقٌ مُستَبطِنٌ فِي القَلبِ ـ من ذلكَ السُّمِّ».

وَقَد طَرَحَ خَمِيصَةً لَهُ على وَجْهِهِ، فإذا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عن وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذلكَ ـ وَكَانَ هذا آخِرَ مَا تَكَلَّمَ وَأَوْصَى بِهِ النَّاسَ ـ: «لَعْنَةُ اللهِ على اليَهُودِ والنَّصَارَى، اِتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ ـ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا ـ لا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ العَرَبَ».

وَأَوْصَى النَّاسَ فَقَالَ: «الصَّلاةَ، الصَّلاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم» كَرَّرَ ذلكَ مِرَارَاً.

وَبَدَأَ الاحْتِضَارُ، فَأَسْنَدَتْهُ السَّيِدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا إِلَيْهَا، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مِن نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ في بَيْتِي وفي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي ونَحْرِي، وَأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ؛ دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ، وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟

فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَم. فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟

فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَم. فَلَيَّنْتُهُ، فَأَمَرَّهُ ـ وفي رِوَايَةٍ أَنَّهُ اسْتَنَّ بِهِ كَأَحْسَنِ مَا كَانَ مُسْتَنَّاً ـ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ في المَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ، يَقُولُ: «لا إِلَهَ إلا اللهُ، إِنَّ للمَوْتِ سَكَرَاتٌ . . .» الحَدِيث.

وَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ من السِّوَاكِ حَتَّى رَفَعَ يَدَهُ أو أُصْبُعَهُ، وَشَخَصَ بَصَرَهُ نَحْوَ السَّقْفِ، وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ، فَأَصْغَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ وَهُوَ يَقُولُ: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بالرَّفِيقِ الأَعْلَى؛ اللَّهُمَّ، الرَّفِيقَ الأَعْلَى».

كَرَّرَ الكَلِمَةَ الأَخِيرَةَ ثَلاثَاً، وَمَالَتْ يَدُهُ وَلَحِقَ بالرَّفِيقِ الأَعْلَى. إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَقَعَ هذا الحَادِثُ حِينَ اشْتَدَّتِ الضُّحَى من يَوْمِ الاثْنَيْنِ 12 رَبِيعِ الأَوَّلِ سَنَةَ 11هـ، وَقَد تَمَّ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَزَادَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ.

أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد كَانَ انْتِقَالُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلَى أَعْظَمَ مُصِيبَةٍ ابْتُلِيَتْ بِهَا الأُمَّةُ مُطْلَقَاً، كَانَ لَهُ أَثَرُهُ العَظِيمُ على نُفُوسِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وآلِ البَيْتِ خَاصَّةً، حَتَّى صَدَقَ فِيهِم وَصْفُ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها: وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ويَقُولُ سَيِّدُنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ وَقَالَ: مَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِي حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. رواه الإمام أحمد والترمذي.

ويَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: قَلَّ لَيْلَةٌ تَأْتِي عَلَيَّ إِلَّا وَأَنَا أَرَى فِيهَا خَلِيلِي عَلَيْهِ السَّلَام؛ وَأَنَسٌ يَقُولُ ذَلِكَ وَتَدْمَعُ عَيْنَاهُ. رواه الإمام أحمد.

أيُّها الإخوة الكرام: وبَكَتْ أُمُّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللهُ عَنها، فَقِيلَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَيَمُوتُ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي رُفِعَ عَنَّا. رواه الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ويَروِي الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا.

فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ.

فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَد انْقَطَعَ مِن السَّمَاءِ؛ فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: حُقَّ للقُلُوبِ أَنْ تَتَأَلَّمَ لِفِرَاقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ لا، وهذهِ الجَمَادَاتُ كَادَتْ تَتَصَدَّعُ من أَلَمِ فِرَاقِهِ.

أَلَمْ تَرَوْا إلى الجِذْعِ الذي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَرَكَهُ، وتَحَوَّلَ إلى المِنْبَرِ، فَحَنَّ إِلَيْهِ وصَاحَ كَمَا يَصِيحُ الصَّبِيُّ، والنَّاسُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ.

روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ، حَتَّى أَتَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ، فَسَكَنَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

أيُّها الإخوة الكرام: كَانَ سَيِّدُنَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إذا حَدَّثَ بهذا الحَدِيثِ يَبْكِي ويَقُولُ: خَشَبَةٌ تَحِنُّ إلى رَسُولِ اللهِ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الحُبَّ الحَقِيقِيَّ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَوْنٌ للمُحِبِّ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا على الطَّاعَةِ، والإِكْثَارِ من العِبَادَةِ، والتَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَمَّا أَثَرُ هذا الحُبِّ في الآخِرَةِ، فَهُوَ نَجَاةٌ من النَّارِ، ولُحُوقٌ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِيَكُونَ المُحِبُّ الصَّادِقُ بِمَعِيَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».

فَمَنْ أَرَادَ المَعِيَّةَ فَعَلَيْهِ بالطَّاعَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً﴾.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَجُلَاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لأُحِبُّكَ حَتَّى إِنِّي لأَذْكُرُكَ، فَلَوْلا أَنِّي أَجِيءُ فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَخْرُجُ، فَأَذْكُرُ أَنِّي إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ صِرْتُ دُونَكَ فِي الْمَنْزِلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الدَّرَجَةِ.

فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَيْئَاً، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾.

فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَتَلاهَا عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ حَقِّقْنَا بالحُبِّ الصَّادِقِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 14/شوال /1435هـ، الموافق: 30 /تموز / 2015م