36ـ أشراط الساعة: تمني الموت في الفتن

 

أشراط الساعة

36ـ تمني الموت في الفتن

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيُّها الإخوة الكرام:

من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي حَدَّثَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، والتي ظَهَرَتْ، وَهِيَ في ازْدِيَادٍ: تَمَنِّي المَوْتِ في الفِتَنِ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ».

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ، إِلَّا الْبَلَاءُ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَغْبِطُونَ فِيهِ الرَّجُلَ بِخِفَّةِ الْحَاذِ ـ مَن قَلَّ مَالُهُ وَوَلَدُهُ ـ كَمَا تَغْبِطُونَهُ الْيَوْمَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، حَتَّى يَمُرَّ أَحَدُكُمْ بِقَبْرِ أَخِيهِ فَيَتَمَعَّكَ عَلَيْهِ كَمَا تَتَمَعَّكُ الدَّابَّةُ فِي مَرَاعِهَا، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، مَا بِهِ شَوْقٌ إِلَى اللهِ، وَلا عَمِلَ صَالِحَاً قَدَّمَهُ، إِلَّا مِمَّا يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْبَلاءِ».

وروى نُعَيْمٌ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَيَأْتِيَنَّ على النَّاسِ زَمَانٌ المَوْتُ فِيهِ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِهِم من العَسَلِ بالمَاءِ البَارِدِ في اليَوْمِ القَائِظِ، ثمَّ لا يَمُوتُ.

وروى الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْتِي الرَّجُلُ الْقَبْرَ فَيَضْطَجِعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَ صَاحِبِهِ، مَا بِهِ حُبُّ لِقَاءِ اللهِ، وَلَكِنْ مِمَّا يَرَاهُ مِنَ الْبَلاءِ.

وروى نُعَيْمُ بْنُ حَمَّاد عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: يَأْتِي على النَّاسِ زَمَانٌ يَتَمَنَّى الرَّجُلُ ذُو الشَّرَفِ والمَالِ والوَلَدِ المَوْتَ مِمَّا يَرَى من البَلَاءِ مِن وُلَاتِهِم.

وروى الحاكم عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: عُدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَسَنَدْتُهُ إلى صَدْرِي، ثمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا تُرْجِعْهَا.

ثمَّ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ يَا أَبَا سَلَمَةَ أَنْ تَمُوتَ فَمُتْ.

فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّا لَنُحِبُّ الحَيَاةَ.

فَقَالَ: والذي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، لَيَأْتِيَنَّ على العُلَمَاءِ زَمَانٌ المَوْتُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِهِم من الذَّهَبِ الأَحْمَرِ، لَيَأْتِيَنَّ أَحَدُكُم قَبْرَ أَخِيهِ فَيَقُولَ: لَيْتَنِي مَكَانَهُ.

المَوْتُ أَعْظَمُ المَصَائِبِ:

أيُّها الإخوة الكرام: مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ المَوْتَ أَعْظَمُ المَصَائِبِ، ولَكِنْ قَد تَأْتِي الفِتَنُ والمَصَائِبُ العَظِيمَةُ فَيَتَمَنَّى الرَّجُلُ المَوْتَ الذي هُوَ أَعْظَمُ المَصَائِبِ لِمَا يُصِيبُهُ من البَلاءِ والشِّدَّةِ عِنْدَ ظُهُورِ المِحَنِ والفِتَنِ، وتَبْدِيلِ وتَغْيِيرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِغَلَبَةِ البَاطِلِ وأَهْلِهِ، ورِئَاسَةِ الجُهَلاءِ، وخُمُولِ العُلَمَاءِ، واسْتِيلاءِ البَاطِلِ في الأَحْكَامِ، وعُمُومِ الظُّلْمِ، واسْتِحْلالِ الحَرَامِ، والتَّحَكُّمِ بِغَيْرِ حَقٍّ في الأَمْوَالِ والأَعْرَاضِ والأَبْدَانِ، وظُهُورِ المَعَاصِي، أَو لِمَا يَقَعُ لِبَعْضِهِم من المُصِيبَةِ في نَفْسِهِ أَو أَهْلِهِ أَو دُنْيَاهُ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ في ذلكَ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِدِينِهِ.

يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ لَو وَجَدَ أَحَدُكُمُ المَوْتَ يُبَاعُ لاشْتَرَاهُ. اهـ. يَقُولُ بَعْضُهُم:

وهذا العَيْشُ مَا لا خَيْرَ فِيهِ   ***   ألا مَوْتٌ يُبَاعٌ فَأَشْتَرِيهِ

أيُّها الإخوة الكرام: تَمَنِّي المَوْتِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ لا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ في كُلِّ بَلَدٍ، وفي كُلِّ زَمَانٍ، وعِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، بَلْ قَد يَكُونُ في مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وفي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ.

«لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ»:

أيُّها الإخوة الكرام: تَمَنِّي المَوْتِ من حَيْثُ الأَصْلُ لا يَنْبَغِي، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعَاً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنٌ فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ خَيْرَاً، وَإِمَّا مُسِيءٌ فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ولِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرَاً» رواه الإمام مسلم عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

ولِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

فَمِن حَيْثُ الأَصْلُ لا يَنْبَغِي للمُؤْمِنِ أَنْ يَتَمَنَّى المَوْتَ، يَقُولُ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَتَمَنَّى المَوْتَ لَتَمَنَّيْتُهُ. رواه الحاكم.

أيُّها الإخوة الكرام: نَهَانَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَن تَمَنِّي المَوْتِ لِضُرٍّ مَسَّنَا، فقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيَاً لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرَاً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرَاً لِي» رواه الشيخان عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أيُّها الإخوة الكرام: زِيَادَةُ عُمُرِ المُؤْمِنِ خَيْرٌ في حَقِّهِ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً.

قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ؛ أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ»؟.

أَمَّا إذا كَانَ تَمَنِّي المَوْتِ خَوْفَاً من الفِتْنَةِ في الدِّينِ فلا حَرَجَ في ذلكَ، وقَد وَرَدَ في الدُّعَاءِ المَأْثُورِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرَاً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرَاً لِي.

ومن هذا المُنْطَلَقِ لَمَّا حَجَّ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ آخِرَ حَجَّةٍ، رَفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ الجَمَرَاتِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ كَبُرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي غَيْرَ مُضَيِّعٍ، وَلَا مُفَرِّطٍ؛ ثمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ تَمَنِّي المَوْتِ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ هُوَ الذي يَكُونُ صَابِرَاً على المَصَائِبِ والآلامِ لأَنَّهَا مُكَفِّرَةٌ لِسَيِّئَاتِهِ، ورَافِعَةٌ في دَرَجَاتِهِ، ولَهُ بِكُلِّ شُعُورٍ بِأَلَمٍ أَجْرٌ عِنْدَ اللهِ تعالى، يَرَى أَنَّهُ في خَيْرٍ عَظِيمٍ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، ومن الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلاءِ، ومن الرَّاضَينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 27/شوال /1436هـ، الموافق: 12/آب / 2015م