40ـ أشراط الساعة: الخسف والمسخ في آخر الأمة

 

 أشراط الساعة

40ـ الخسف والمسخ في آخر الأمة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي حَدَّثَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، حُصُولُ الخَسْفِ والمَسْخِ والقَذْفِ في آخِرِ هذهِ الأُمَّةِ، وذلكَ بَعْدَ انْتِهَاكِ المَحَارِمِ، واقْتِرَافِ الآثَامِ، وانْتِشَارِ الفُجُورِ عَلَانِيَةً.

روى ابنُ أَبِي عاصم عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُحَارٍ، عَن أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْسِفَ اللهُ عزَّ وجلَّ بِقَبَائِلَ، حَتَّى يُقَالَ للرَّجُلِ: مَن بَقِيَ من بَنِي فُلَانٍ؟»

قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ العَرَبَ تُدْعَى إلى قَبَائِلِهَا، وَأَنَّ العَجَمَ تُدْعَى بِقُرَاهَا.

وروى الإمام البخاري عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، واللهِ مَا كَذَبَنِي، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ ـ جَبَلٍ عَالٍ ـ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ ـ أَي: الرَّاعِي بالمَاشِيَةِ ـ يَأْتِيهِمْ ـ يَعْنِي الْفَقِيرَ ـ لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدَاً؛ فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ ـ أي: يُهْلِكُهُم لَيْلَاً ـ وَيَضَعُ الْعَلَمَ ـ أَي: يُوقِعُهُ عَلَيْهِم ـ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وروى الترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ ـ ذَهَابُ الشَّيْءِ في الأَرْضِ والغَوْرُ بِهِ فِيهَا ـ وَمَسْخٌ، وَذَلِكَ فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ».

وروى الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لا تَنْقَضِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَتَّى يَقَعَ بِهِمُ الْخَسْفُ، وَالْمَسْخُ، وَالْقَذْفُ».

قَالُوا: وَمَتَى ذَاكَ يَا نَبِيَّ اللهِ؟

قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ النِّسَاءَ قَدْ رَكِبْنَ السُّرُوجَ، وَكَثُرَتِ الْقَيْنَاتُ ـ الجَارِيَاتُ المُغَنِّيَاتُ ـ وَشُهِدَ بِشَهَادَاتِ الزُّورِ، وَشَرِبَ المُسْلِمُونَ فِي آنِيَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ: الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَاسْتَغْنَى الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، فَاسْتَدْفِرُوا وَاسْتَعِدُّوا». وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا عَلَى جَبْهَتِهِ يَسْتُرُ وَجْهَهُ.

وروى الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ ـ رَمْيٌ؛ والمُرَادُ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ حِجَارَةً ـ».

قَالَتْ: قُلْتُ: يَارَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟

قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا ظَهَرَ الْخَبَثُ».

تَحْذِيرُ اللهِ تعالى الأُمَّةَ من سُنَنِهِ المَاضِيَةِ في الأُمَمِ:

أيُّها الإخوة الكرام: العَالَمُ اليَوْمَ في مُنْعَطَفٍ خَطِيرٍ لِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ من كَثِيرٍ من المَعَاصِي والمُنْكَرَاتِ وعَنْجَهِيَّةٍ واسْتِكْبَارٍ واسْتِعْلاءٍ على أَوَامِرِ اللهِ تعالى الوَاحِدِ القَهَّارِ.

والنَّظَرُ في هَذهِ الحَالِ يَدْفَعُ النَّاظِرَ إِلى البَحْثِ عَن السَّبَبِ، والبَحْثِ عَن المَخْرَجِ من هذا الخَطَرِ العَظِيمِ الذي دَاهَمَ الأُمَّةَ وأَوْصَلَهَا إلى حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا من ذِلَّةٍ وفُرْقَةٍ واخْتِلافٍ.

أيُّها الإخوة الكرام: الأُمَّةُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى أَنْ تَقْرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ قِرَاءَةَ تَدَبُّرٍ وإِمْعَانٍ، وأَنْ تَقِفَ مَعَ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ التي تَحَدَّثَتْ عَن مَصَارِعِ الأُمَمِ الغَابِرَةِ، ومَا حَلَّ بِهَا من العَذَابِ، قَالَ تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيرَاً﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءَاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرَاً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. يَعْنِي: لا تَظُنَّهُم بِمَنْجَاةٍ من عَذَابِ اللهِ الذي أَعَدَّهُ اللهُ لأَعْدَائِهِ في الدُّنْيَا من خَسْفٍ ومَسْخٍ ورَجْفٍ وقَتْلٍ ومَا أَشْبَهَ ذلكَ من عِقَابِ اللهِ.

أَسْبَابُ المَصَائِبِ والمَهَالِكِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد حَذَّرَ اللهُ تعالى الأُمَّةَ من اقْتِرَافِ الآثَامِ والذُّنُوبِ، وَبَيَّنَ لَهُم مَصَارِعَ الأُمَمِ التي تَجَرَّأَتْ على أَحْكَامِ اللهِ تعالى، وكذلكَ بَيَّنَ لَهُم أَنَّ المَصَائِبَ والمَهَالِكَ عُقُوبَاتٌ تُصَبُّ على الأُمَمِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِم وآثَامِهِم، فاللهُ تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ، لا يَظْلِمُ أَحَدَاً.

قَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئَاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.

ويَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَو آخَذَ اللهُ الخَلَائِقَ بِذُنُوبِ المُذْنِبِينَ لَأَصَابَ العَذَابُ جَمِيعَ الخَلْقِ حَتَّى الجِعْلَانَ ـ وَهُيَ دَابَّةٌ سَوْدَاءُ من دَوَابِّ الأَرْضِ ـ في حِجْرِهَا، وَلَأَمْسَكَ الأَمْطَارَ من السَّمَاءِ، والنَّبَاتَ من الأَرْضِ فَمَاتَ الدَّوَابُّ، وَلَكِنَّ اللهَ يَأَْخُذُ بالعَفْوِ والفَضْلِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: هذهِ العُقُوبَاتُ والعَذَابُ الذي تَوَعَّدَ اللهُ تعالى بِهِ الخَلْقَ العُصَاةَ لَهُ مَوْعِدٌ يَأْتِيهِ، وإِنْ طَالَ على سَبِيلِ الإِمْهَالِ أَو الاسْتِدْرَاجِ، إِذْ هُوَ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ يُعَذِّبُ اللهُ تعالى بِهَا العِبَادَ، وهذهِ السُّنَنُ لا تُحَابِي أُمَّةً، ولا تَتَجَاوَزُ مُسْتَحِقَّاً للعَذَابِ، وإِنْ تَأَخَّرَ ذلكَ إلى حِينِ أَجَلِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.

وقَالَ تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.

فالسُّنَنُ الإِلَهِيَّةُ لا تَتَغَيَّرُ ولا تَتَبَدَّلُ، قَالَ تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: فَمِن عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ حُصُولُ خَسْفٍ عَامٍّ ومَسْخٍ وقَذْفٍ إذا عَمَّ الفُجُورُ، وكَثُرَ الخَبَثُ، وتَجَرَّأَ العِبَادُ على أَحْكَامِ اللهِ تعالى جِهَارَاً نَهَارَاً مُسْتَحِلِّينَ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرُدَّنَا إِلَيْهِ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الأربعاء: 25/ذو القعدة /1436هـ، الموافق: 9/أيلول / 2015م