6ـ دروس رمضانية لعام 1436: أعلن عبوديتك لله عز وجل

 

 6ـ دروس رمضانية لعام 1436: أعلن عبوديتك لله عز وجل

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أيُّها الإخوة الكرام:

الدُّعَاءُ على نَوْعَيْنِ، دُعَاءُ عِبَادَةٍ، ودُعَاءُ مَسْأَلَةٍ، ودُعَاءُ المَسْأَلَةِ هوَ أَنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي من اللهِ تعالى جَلْبَ نَفْعٍ، أو دَفْعَ ضُرٍّ، حَسْبَ مَا يَرَاهُ الدَّاعِي.

أمَّا دُعَاءُ العِبَادَةِ، فَهُوَ الذي يَتَضَمَّنُ الثَّنَاءَ على اللهِ تعالى بِمَا هوَ أَهْلُهُ، مَصْحُوبَاً بالخَوْفِ والرَّجَاءِ، وكُلُّ دُعَاءِ مَسْأَلَةٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنطَوِيَاً تَحْتَ دُعَاءِ العِبَادَةِ، وكُلُّ دُعَاءِ عِبَادَةٍ مُسْتَلْزِمٌ لِدُعَاءِ المَسْأَلَةِ، وهذا مَا صَرَّحَ بِهِ القُرْآنُ العَظِيمُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفَاً وَطَمَعَاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين﴾.

والذي يُوَضِّحُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، هوَ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾. سَوَاءٌ أَكَانَ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ أَمْ دُعَاءَ عِبَادَةٍ، ثمَّ أَعْقَبَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ هذا بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾. لِيَعْلَمَ العِبَادُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ وَغَايَةٌ، لا وَسِيلَةً.

أَعْلِنْ عُبُودِيَّتَكَ للهِ عزَّ وجلَّ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على الإِنْسَانِ المُسْلِمِ أَنْ يُعْلِنَ عن عُبُودِيَّتِهِ للهِ عزَّ وجلَّ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وأَنْ لا يَشْتَرِطَ على اللهِ تعالى مَا يُرِيدُ، لأَنَّهُ عَبْدٌ لا يَعْلَمُ مَا يُصْلِحُهُ وما يُفْسِدُهُ، بَلْ يُعْلِنُ عن حَاجَتِهِ للهِ تعالى ـ وهوَ العَبْدُ الذَّلِيلُ المُنْكَسِرُ إلى اللهِ تعالى، المُتَجَلْبِبُ بِرِداءِ العُبُودِيَّةِ لَهُ ـ ثمَّ يُفوِّضُ أَمْرَهُ إلى اللهِ تعالى، فَهُوَ الذي يَخْتَارُ لِعَبْدِهِ مَا يُصْلِحُهُ، بالعَطَاءِ أو بالمَنْعِ، بالخَفْضِ أو بالرَّفْعِ، بالعِزِّ أو بالذُّلِّ، قَالَ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُون﴾. فلا يَسَعُ العَبْدَ بَعْدَ الدُّعَاءِ إلا التَّفْوِيضُ لِأَمْرِ اللهِ تعالى، لذلكَ خَتَمَ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُون﴾. فاللهُ تعالى هوَ الذي يَعْلَمُ ما يُصْلِحُ العَبْدَ.

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ أَنْ تَسْتَقِرَّ هذهِ الحَقِيقَةُ في نُفُوسِنَا، ويَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَرَّفَ على هُوِيَّتِنَا، فَنَحْنُ عَبِيدٌ، ومَالِكُنَا هوَ اللهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ، الفَرْدُ الصَّمَدُ، الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ، لا شَرِيكَ لَهُ ولا نَظِيرَ ولا مَثِيلَ ولا نِدَّ لَهُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وهوَ العَدْلُ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيد * وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيز﴾.

تَضَرَّعْ إلى اللهِ تعالى ثمَّ سَلِّمْ لَهُ:

أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَتَضَرَّعَ إلى اللهِ تعالى، ثمَّ بَعْدَ ذلكَ يُسلِّمُ الأَمْرَ للهِ تعالى الذي هوَ أَرْحَمُ بِهِ من نَفْسِهِ، وهوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ، وهوَ الحَكِيمُ في شُؤُونِ خَلْقِهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَنْظُرْ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَومَ الطَّائِفِ، عِنْدَمَا رَدَّتْهُ أَهْلُ الطَّائِفِ شَرَّ رَدٍّ، وَأَوَى إلى ظِلِّ شَجَرَةٍ في بُسْتَانِ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، ثمَّ تَضَرَّعَ إلى اللهِ تعالى تَضَرُّعَ العَبدِ الفَقِيرِ إلى خَالِقِهِ، تَضَرُّعَ العَبدِ الذي تَبَرَّأ مِن حَوْلِهِ وقُوَّتِهِ وتَدبِيرِهِ إلى حَوْلِ وقُوَّةِ وتَدبِيرِ مَولاهُ الذي لا يُعجِزُهُ شيءٌ في الأَرْضِ ولا في السَّمَاءِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي؛ وَقِلَّةَ حِيلَتِي؛ وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ؛ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي؛ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي؛ غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ؛ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك؛ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك؛ لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك».

تَضَرَّعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ، وَسَأَلَهُ واسْتَجَارَ بِهِ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، وبَكَى وشَكَى إِلَيهِ أَمْرَهُ بِقَولِهِ: «اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي؛ وَقِلَّةَ حِيلَتِي؛ وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ؛ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي». ثمَّ بَعدَ ذلكَ سَلَّمَ الأَمْرَ إلى اللهِ تعالى تَسلِيمَ العَبدِ الذي يَبحَثُ عن رِضَا سَيِّدِهِ ومَولاهُ، فَقَالَ: «إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي؛ غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ؛ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك؛ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك؛ لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى» رواه الطبراني.

نعم، لقد تَضَرَّعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عُبودِيَّةً، لأنَّهُ مَأْمُورٌ بذلكَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾. ثمَّ سَلَّمَ الأَمْرَ لمولاهُ تَسْلِيمَ العَبدِ الفَقِيرِ لِسَيِّدِهِ الغَنِيِّ، سَلَّمَ تَسْلِيمَ العَبدِ الذي لا يَمْلِكُ لِنفْسِهِ نَفْعَاً ولا ضُرَّاً، ولا يَمْلِكُ حَوْلاً ولا قُوَّةً ولا مَشِيئَةً، لأنَّهُ مَأْمُورٌ بذلكَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: الدُّعاءُ إذاً هوَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِحدِّ ذَاتِهَا، وَلَيْسَ وَسِيلَةً لِغَايَةٍ، وهذا مَا أَكَّدَهُ لَنَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾» رواه الإمام أحمد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وفي رواية للترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ».

فَالدُّعَاءُ أَكْرَمُ شَيْءٍ على اللهِ تعالى، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى الله مِنْ الدُّعَاءِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: أَكْثِرُوا من الدُّعَاءِ، من دُعَاءِ المَسْأَلَةِ، ومن دُعَاءِ العِبَادَةِ، وَلْيَكُنِ الدُّعَاءُ دُعَاءَ عُبودِيَّةٍ للهِ تعالى، وَلْيَكُنْ مَقْصُودَاً بِحَدِّ ذَاتِهِ، ولا تَجعَلُوهُ وَسِيلَةً لِغَايَةٍ، لأنَّهُ مَن جَعَلَ الدُّعَاءَ وَسِيلَةً لِغَايَةٍ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ الدُّعَاءَ إذا تَحَقَّقَتْ غَايَتُهُ، وهذا مُناقِضٌ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين﴾. فَالدُّعَاءُ تَكْلِيفٌ وتَشْرِيفٌ، ولا يَسَعُ العَبْدَ تَرْكُهُ في سَائِرِ أَحْوَالِهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: لِنَدْعُ اللهَ تعالى وَنَحْنُ على يَقِينٍ بالاسْتِجَابَةِ، لأَنَّ وَعْدَ اللهِ تعالى لا يُخْلَفُ، وهوَ القَائِلُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.

والاسْتِجَابَةُ قَد تَكُونُ بِتَحْقِيقِ مَا أَرَادَ العَبدُ، أو أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ في الآخِرَةِ، أو بِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مالك عَن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلا كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ، إِمَّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ».

وكما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضِي اللهُ عنْهُ، أَنَّ رسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا عَلى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللهَ تَعالى بِدَعْوَةٍ إِلا آتَاهُ اللهُ إِيَّاهَا، أَوْ صَرَف عنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، ما لَم يدْعُ بإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رحِمٍ».

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذاً نُكْثِرُ.

قَالَ: «اللهُ أَكْثَرُ».

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَرِّجَ عَن هذهِ الأمَّةِ عاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 11/رمضان /1436هـ، الموافق: 28/حزيران / 2015م