43ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (3)

 

 43ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى إِيقَافَاً لِمَدِّ الشِّرْكِ على ظَهْرِ الأَرْضِ، وتَقْلِيمِ أَظْفَارِهِ، والإِطَاحَةِ بِكُلِّ رُؤُوسِهِ، وَدَفْنِهِم في بَدْرٍ، لقد خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ عِنْدَمَا بَلَغَهُ نَجَاةُ عِيرِ قُرَيْشٍ، وقَالُوا لَهُ: لا دَاعِيَ للقِتَالِ، فَقَال: لا، وأَقْسَمُ باللَّاتِ والعُزَّى، أَنَّهُ لَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَرِدَ بَدْرَاً، فَيُقِيمَ فِيهَا ثَلاثَاً، للفِسْقِ والفُجُورِ، ولِسَفْكِ الدِّمَاءِ، ولِتَسْمَعَ الدُّنيَا بِمَسِيرَتِهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: العَاقِلُ هوَ المُتَّعِظُ بالآَخَرِينَ، وأَرَادَ اللهُ عزَّ وجلَّ أَنْ يُؤَدِّبَ المُؤْمِنِينَ حَتَّى لا يَكُونُوا كَأَمْثَالِ هؤلاءِ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرَاً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ واللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾.

اِسْتِشَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ:

أيُّها الإخوة الكرام: عِنْدَمَا نَجَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ، وأَصَرَّ أَبُو جَهْلٍ على التَّقَدُّمِ نَحْوَ بَدْرٍ للقِتَالِ، وَقَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ.

فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ وَأَحْسَنَ.

ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّاَبِ، فَقَالَ وَأَحْسَنَ.

ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اِمْضِ لِمَا أَرَاك اللهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، واللهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ﴾. وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، لَوْ سِرْت بِنَا إلَى بَرْكِ الْغِمَادِ ـ مَوضِع وَرَاءَ مَكَّةَ ـ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونَهِ، حَتَّى تَبْلُغَهُ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَاً، وَدَعَا لَهُ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِك حَتَّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُك مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا.

فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَلا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ.

فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: واللهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «أَجَلْ».

قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَو اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدَاً، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ؛ لَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.

فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، واللهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ».

نَحْنُ من مَاءٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: عِنْدَ ذلكَ ارْتَحَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى نَزَلَ قَرِيبَاً من بَدْرٍ، فَرَكِبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هوَ والصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَسْتَكْشِفَانِ عَن مُعَسْكَرِ مَكَّةَ، إذا هُمَا بِشَيْخٍ من العَرَبِ.

فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُرَيْشٍ ، وَعَنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ ـ سَأَلَ عَن الجَيْشَيْنِ زِيَادَةً في التَّكَتُّمِ ـ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ.

فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاكَ».

قَالَ: أَذَاكَ بِذَاكَ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمّدَاً وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الذِي أَخْبَرَنِي، فَهُم الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشَاً خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي فِيهِ قُرَيْشٌ.

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ».

ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَبَقِيَ الشَّيْخُ يَتَفَوَّهُ يَقُولُ: مَا مِنْ مَاءٍ؟ أَمِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ؟

«هذهِ مَكَّةُ قَد أَلْقَتْ إِلَيْكُم أَفْلاذَ كَبِدِهَا»:

أيُّها الإخوة الكرام: وفي مَسَاءِ ذلكَ اليَوْمِ بَعَثَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، والزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ، وسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، في نَفَرٍ من أَصْحَابِهِ يَسْتَطْلِعُونَ أَخْبَارَ المُشْرِكِينَ، فَوَجَدُوا غُلَامَيْنِ يَسْتَقِيَانِ لِجَيْشِ مَكَّةَ، فَأَلْقَوُا عَلَيْهِمَا القَبْضَ، وَجَاؤُوا بِهِمَا إلى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ في الصَّلاةِ، فَاسْتَخْبَرَهُمَا القَوْمُ، فَقَالَا: نَحْنُ سُقَاةُ قَرَيْشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِم من المَاءِ، فَكَرِهَ القَوْمُ، وَرَجَوا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ ـ لا تَزَالُ في نُفُوسِهِم بَقَايَا أَمَلٍ في الاسْتِيلاءِ على القَافِلَةِ ـ فَضَرَبُوهُمَا ضَرْبَاً مُوجِعَاً حَتَّى اضْطُرَّ الغُلَامَانِ أَنْ يَقُولَا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ فَتَرَكُوهُمَا.

وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الصَّلَاةِ قَالَ لَهُم كَالعَاتِبِ: «إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، واللهِ إنَّهُمَا لِقُرَيْشِ».

ثمَّ خَاطَبَ الغُلَامَيْنِ قَائِلاً: «أَخْبِرَانِي عَنْ قُرَيْشٍ؟».

قَالَا: هُمْ واللهِ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الذِي تَرَى بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى ـ وَالْكَثِيبُ الْعَقَنْقَلُ ـ.

فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَم الْقَوْمُ؟».

قَالَا: كَثِيرٌ.

قَالَ: «مَا عِدَّتُهُمْ؟».

قَالَا: لَا نَدْرِي.

قَالَ: «كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟».

قَالَا: يَوْمَاً تِسْعَاً، وَيَوْمَاً عَشْرَاً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْقَوْمُ فِيمَا بَيْنَ التِّسْعِ مِئَةٍ وَالْأَلْفِ».

ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: «فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟».

قَالَا: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهُ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ.

فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا».

«لقد أَشَرْتَ بالرَّأْيِ»:

أيُّها الإخوة الكرام: أَرَادَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْبِقَ المُشْرِكِينَ إلى مَاءِ بَدْرٍ، ويَحُولَ بَيْنَهُم وبَيْنَ الاسْتِيلاءِ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ عِشَاءً أَدْنَى مَاءٍ من مِيَاهِ بَدْرٍ، وَهُنَا قَامَ الحُبَابُ بْنُ المُنْذِرِ كَخَبِيرٍ عَسْكَرِيٍّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ هذا المَنْزِلَ، أَمْنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ ولا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ؟ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ والحَرْبُ والمَكِيدَةُ؟

قَالَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ والحَرْبُ والمَكِيدَةُ».

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِن الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمَّ نُغَوِّرُ ـ أي نُخَرِّب ـ مَا وَرَاءَهُ مِن الْقُلُبِ،ثُمَّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضَاً فَنَمْلَؤُهُ مَاءً،ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ».

فَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِن النَّاسِ فَسَارَ حَتَّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِن الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ شَطْرَ اللَّيْلِ، ثمَّ صَنَعُوا الحِيَاضَ وَغَوَّرُوا مَا عَدَاهَا من القُلُبِ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: وفي هذهِ الغَزْوَةِ تَرْجَمَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم عن الحُبِّ الحَقِيقِيِّ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمُ البَعْضِ، وصَرَّحُوا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الذينَ تَخَلَّفُوا عَنهُ في المَدِينَةِ لَيْسُوا بِأَقَلَّ حُبَّاً مِنْهُم لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَفَ سَيِّدُنَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَلَا نَبْنِي لَك عَرِيشَاً تَكُونُ فِيهِ، وَنُعِدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَت الْأُخْرَى، جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ يَا نَبِيَّ اللهِ مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَك حُبَّاً مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبَاً مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ.

فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَاً، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ. ثُمَّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَرِيشٌ على تَلٍّ مُرْتَفِعٍ يَقَعُ في الشِّمَالِ الشَّرْقِيِّ لِمَيْدَانِ القِتَالِ، وَيُشْرِفُ على سَاحَةِ المَعْرَكَةِ.

كَمَا تَمَّ اخْتِيَارُ فِرقَةٍ من شَبَابِ الأَنْصَارِ بِقِيَادَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ مَقَرِّ قِيَادَتِهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْمَعَ شَمْلَ هذهِ الأُمَّةِ، كَمَا جَمَعَ شَمْلَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 20/رمضان /1436هـ، الموافق: 7/تموز/ 2015م