47ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (7)

 

 47ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (7)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى بَيَّنَتْ عَوَامِلَ النَّصْرِ، وقَرَّرَتْ أَنَّ النَّصْرَ لَيْسَ بالعَدَدِ ولا بالعُدَّةِ، إِنَّمَا هُوَ بِمِقْدَارِ الاتِّصَالِ باللهِ تعالى الذي لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ ولا في السَّمَاءِ.

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى بَيَّنَتْ للمُسْلِمِينَ في عُصُورِهِمُ المُخْتَلِفَةِ أَنَّهُم يَمْلِكُونَ في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ القُدْرَةَ للتَّغَلُّبِ على أَعْدَائِهِم مَهمَا كَانُوا هُم من القِلَّةِ وَعَدُوُّهُم من الكَثْرَةِ، بِشَرْطِ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِمُ الإِيمَانُ والتَّقْوَى، قَالَ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.

«مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُم، وَلَكِنْ لا يُجِيبُونَ»:

أيُّها الإخوة الكرام: اِنْتَهَتِ المَعْرَكَةُ بِهَزِيمَةٍ سَاحِقَةٍ بالنِّسْبَةِ إلى المُشْرِكِينَ وَبْفَتْحٍ مُبِينٍ بالنِّسْبَةِ للمُسْلِمِينَ، وَقَد اسْتُشْهِدَ من المُسْلِمِينَ في هذهِ المَعْرَكَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلَاً، سِتَّةٌ من المُهَاجِرِينَ وَثَمَانِيَةٌ من الأَنْصَارِ.

أَمَّا المُشْرِكُونَ فَقَد لَحِقَتْهُم خَسَائِرُ فَادِحَةٌ، قُتِلَ مِنهُم سَبْعُونَ، وَأُسِرَ سَبْعُونَ؛ وَعَامَّتُهُمُ القَادَةُ والزُّعَمَاءُ والصَّنَادِيدُ.

وَلَمَّا انْقَضَتِ الحَرْبُ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حَتَّى وَقَفَ على القَتْلَى فَقَالَ: «بِئْسَ العَشِيرَةُ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَخَذَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النّاسُ» ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا إلَى قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ بَدْرٍ.

وَعَن أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّ نَبِيَّ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلَاً من صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا في طَوِيٍّ من أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبَثٍ.

وَكَانَ إذا ظَهَرَ على قَوْمٍ أَقَامَ بالعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا، ثمَّ مَشَى، وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ.

حَتَّى قَامَ على شَفَةِ الرَّكِىِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِم بِأَسْمَائِهِم وَأَسْمَاءِ آبَائِهِم: «يَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ، يَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ، أَيَسُرُّكُم أَنَّكُم أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَد وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقَّاً، فَهَلْ وَجَدْتُم مَا وَعَدَ رَبُّكُم حَقَّاً».

فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تُكَلِّمُ من أَجْسَادٍ لا أَرْوَاحَ لَهَا؟

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُم بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُم».

وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُم، وَلَكِنْ لا يُجِيبُونَ».

أَخْبَارُ الهَزِيمَةِ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَذَلَّ اللهُ تعالى الشِّرْكَ والمُشْرِكِينَ في غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، وَفَرَّ المُشْرِكُونَ من سَاحَةِ بَدْرٍ في صُورَةٍ غَيْرِ مُنَظَّمَةٍ؛ تَبَعْثَرُوا في الوِدْيَانِ والشِّعَابِ، وَاتَّجَهُوا صَوْبَ مَكَّةَ مَذْعُورِينَ، لا يَدْرُونَ كَيْفَ يَدْخُلُونَهَا خَجَلَاً.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَن قَدِمَ بِمُصَابِ قُرَيْشٍ الحَيْسُمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الخُزَاعِيُّ.

فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟

قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فِي رِجَالٍ من الزُّعَمَاءِ سَمَّاهُم.

فَلَمَّا أَخَذَ يَعُدُّ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ، قَالَ صَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ قَاعِدٌ في الحِجْرِ: واللهِ إِنْ يَعْقِلْ هذا، فَاسْأَلُوهُ عَنِّي.

قَالُوا: مَا فَعَلَ صَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ؟

قَالَ: هَا هُوَ ذَا جَالِسٌ في الحِجْرِ، وَقَد واللهِ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتِلَا.

هَلُمَّ إلَيَّ، فَعِنْدَك لَعَمْرِي الْخَبَرُ:

أيُّها الإخوة الكرام: ذُهِلَتْ قُرَيْشٌ بالخَبَرِ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: كُنْت غُلَامَاً لِلْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ وَأَسْلَمْتُ، وَكَانَ العَبَّاسُ يَكْتُمُ إسْلَامَهُ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَد تَخَلَّفَ عَن بَدْرٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ الخَبَرُ كَبَتَهُ اللهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا في أَنْفُسِنَا قُوَّةً وَعِزَّاً، وَكُنْتُ رَجُلَاً ضَعِيفَاً أَعْمَلُ الأَقْدَاحَ، أَنْحَتُهَا فِي حُجْرَةِ زَمْزَمَ ، فَوَاللهِ إِنِّي لَجَالِسٌ فِيهَا أنْحَتُ أَقْدَاحِي، وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةً وَقَدْ سَرَّنَا مَا جَاءَنَا مِن الْخَبَرِ، إذْ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بِشَرٍّ حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ الْحُجْرَةِ ـ على طَرَفِهَا ـ فَكَانَ ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِي، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ إذْ قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَد قَدِمَ.

فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَلُمَّ إلَيَّ فَعِنْدَك لَعَمْرِي الْخَبَرُ.

قَالَ: فَجَلَسَ إلَيْهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ.

فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ؟

قَالَ: واللهِ مَا هُوَ إلا أَنْ لَقِينَا الْقَوْمَ فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا يَقُودُونَنَا كَيْفَ شَاؤُوا، وَيَأْسِرُونَنَا كَيْفَ شَاؤُوا ، وَايْمُ اللهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالَاً بِيضَاً، عَلَى خَيْلٍ بَلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، واللهِ مَا تُلِيقُ شَيْئَاً، وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ.

قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْتُ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ واللهِ الْمَلَائِكَةُ.

قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهِي ضَرْبَةً شَدِيدَةً.

قَالَ: وَشَاوَرْتُهُ ـ جَاذَبْتُهُ ـ  فَاحْتَمَلَنِي فَضَرَبَ بِي الْأَرْضَ ثُمَّ بَرَكَ عَلَيَّ يَضْرِبُنِي، وَكُنْتُ رَجُلَاً ضَعِيفَاً، فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً فَعَلَتْ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً.

وَقَالَتْ: اسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّدُهُ فَقَامَ مُوَلِّيَاً ذَلِيلَاً، فَوَاللهِ مَا عَاشَ إلا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللهُ بِالْعَدَسَةِ ـ بِثْرَةٌ، تَخْرُجُ فَتَقْتُلُ، من جِنْسِ الطَّاعُونِ ـ فَقَتَلَتْهُ، فَتَرَكَهُ بَنُوهُ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لا تَقْرُبُ جَنَازَتُهُ، ولا يُحَاوَلُ دَفْنُهُ، فَلَمَّا خَافُوا السُّبَّةَ في تَرْكِهِ حَفَرُوا لَهُ، ثمَّ دَفَعُوهُ بِعُودٍ في حُفْرَتِهِ، وَقَذَفُوهُ بالحِجَارَةِ من بَعِيدٍ حَتَّى وَارَوْهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: من الطَّرَائِفِ أَنَّ الأَسْوَدَ بْنَ المُطَّلِبِ أُصِيبَ ثَلَاثَةٌ من أَبْنَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِم، وَكَانَ ضَرِيرَ البَصَرِ، فَسَمِعَ لَيْلَاً صَوْتَ نَائِحَةٍ، فَبَعَثَ غُلَامَهُ، وَقَالَ: اُنْظُرْ هَلْ أُحِلَّ النَّحْبُ؟ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ على قَتْلَاهَا؟ لَعَلِّي أَبْكِي على أَبِي حَكِيمَةَ ـ ابْنِهِ ـ فَإِنَّ جَوْفِي قَد احْتَرَقَ، فَرَجَعَ الغُلَامُ وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي على بَعِيرٍ لَهَا أَضَلَّتْهُ، فَلَمْ يَتَمَالَكِ الأَسْوَدُ نَفْسَهُ وَقَالَ:

أَتَبْكِي أَنْ يَــضِـلَّ لَهَا بَـعِـيرٌ   ***   وَيَـمْنَعُهَا مِن النَّوْمِ السُّهُودُ

فَلَا تَبْكِي عَـلَى بَـكْرٍ وَلَـكِنْ    ***   عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَت الْجُدُودُ

عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُـصَيْصٍ   ***   وَمَخْـزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْـوَلِيدِ

وَبَكْيِيَ إنْ بَكَّيْتِ عَلَى عَقِيـلٍ    ***   وَبَكْـيِي حَارِثَاً أَسَـدَ الْأُسُودِ

وَبَكْيِهِمُ وَلَا تَسَمِي جَمِـيـعَـاً   ***   وَمَا لِأَبِي حَـكِيـمَةَ مِنْ نَـدِيدِ

أَلَا قَدْ سَادَ بَعْـدَهُـمُ رِجَـالٌ   ***   وَلَوْلَا يَـوْمُ بَـدْرٍ لَمْ يَـسُـودُوا

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 24/رمضان /1436هـ، الموافق: 11/تموز/ 2015م