48ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (8)

 

 48ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (8)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا تَمَّ الفَتْحُ للمُسْلِمِينَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بَشِيرَيْنِ إلى أَهْلِ المَدِينَةِ؛ لِيُعَجِّلَ لَهُمُ البُشْرَى، أَرْسَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ بَشِيرَاً إلى أَهْلِ العَالِيَةِ، وَأَرْسَلَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بَشِيرَاً إلى أَهْلِ السَّافِلَةِ.

وَكَانَ اليَهُودُ والمُنَافِقُونَ قَد أَرْجَفُوا في المَدِينَةِ بِإِشَاعَةِ الدِّعَايَاتِ الكَاذِبَةِ، حَتَّى إِنَّهُم أَشَاعُوا خَبَرَ مَقْتَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَلَمَّا رَأَى أَحَدُ المُنَافِقِينَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَاكِبَاً القَصْوَاءَ ـ نَاقَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ـ قَالَ: لَقَد قُتِلَ مُحَمَّدٌ، وهذهِ نَاقَتُهُ نَعْرِفُهَا، وهذا زَيْدٌ لا يَدْرِي مَا يَقُولُ من الرُّعْبِ، وَجَاءَ فَلَّاً ـ مُنْهَزِمَاً ـ

عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، البَشِيرَانِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَرْسَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ ابْنَ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بَشِيرَاً إلى أَهْلِ العَالِيَةِ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ.

قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَأَتَانَا الْخَبَرُ ـ حِينَ سَوَّيْنَا التُّرَابَ عَلَى رُقَيَّةَ ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ التِي كَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَلَّفَنِي عَلَيْهَا ـ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ قَدْ قَدِمَ.

قَالَ: فَجِئْتُهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْمُصَلَّى قَدْ غَشِيَهُ النَّاسُ وَهُوَ يَقُولُ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الْعَاصِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهُ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ.

قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتْ أَحَقٌّ هَذَا؟

قَالَ: نَعَمْ، واللهِ يَا بُنَيَّ.

قَتْلُ النَّضِرِ بْنِ الحَارِثِ، وعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ أَنْ أَقَامَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِبَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَحَرَّكَ بِجَيْشِهِ نَحْوَ المَدِينَةِ وَمَعَهُ الأُسَارَى من المُشْرِكِينَ، وَاحْتَمَلَ مَعَهُ النَّفْلَ الذي أَصَابَ من المُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ، فَلَمَّا خَرَجَ من مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ نَزَلَ على كَثِيبٍ بَيْنَ المَضِيقِ وَبَيْنَ النَّازِيَةِ، وَقَسَّمَ هُنَالِكَ الغَنَائِمَ على المُسْلِمِينَ على السَّوَاءِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ مِنهَا الخُمُسَ.

وَعِنْدَمَا وَصَلَ إلى الصَّفْرَاءِ أَمَرَ بِقَتْلِ النَّضِرِ بْنِ الحَارِثِ ـ وَكَانِ هُوَ حَامِلَ لِوَاءِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ من أَكَابِرِ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ، ومن أَشَدِّ النَّاسِ كَيْدَاً للإِسْلَامِ وَإيِذَاءً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ـ فَضَرَبَ عُنَقَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

وَلَمَّا وَصَلَ إلى عِرْقِ الظُّبْيَةِ أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ـ وَقَد أَسْلَفْنَا بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من إِيذَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَهُوَ الذي كَانَ أَلْقَى سَلَى جَزُورٍ على ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَهُوَ في الصَّلَاةِ، وهوَ الذي خَنَقَهُ بِرِدَائِهِ وَكَادَ يَقْتُلُهُ، لولا اعْتِرَاضُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَلَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ قَالَ: مَن للصِّبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ؟

قَالَ: «النَّارُ».

فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ، وَيُقَالُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

وَكَانَ قَتْلُ هَذَيْنِ الطَّاغِيَتَيْنِ وَاجِبَاً نَظَرَاً إلى سَوَابِقِهِمَا، فَلَمْ يَكُونَا من الأَسَارَى فَحَسْبُ، بَلْ كَانَا من مُجْرِمِي الحَرْبِ بالاصْطِلاحِ الحَدِيثِ.

«يَا ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ المَلَأُ»:

أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا وَصَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى الرَّوْحَاءِ لَقِيَهُ رُؤُوسُ المُسْلِمِينَ ـ الذينَ كَانُوا قَد خَرَجُوا للتَّهْنِئَةِ والاسْتِقْبَالِ حِينَ سَمِعُوا بِشَارَةَ الفَتْحِ من الرَّسُولَيْنِ ـ يُهَنِّؤُونَهُ.

وَحِينَئِذٍ قَالَ لَهُم سَلَمَةُ بْنُ سلامَةَ: ما الذي تُهَنِّؤُونَنَا بِهِ؟ فَوَاللهِ إِنْ لَقِينَا إلا عَجَائِزَ صُلْعَاً كالْبُدْنِ المعُقَّلَةِ، فَنَحَرْنَاهَا.

فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثمَّ قَالَ: «يَا ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ المَلَأُ».

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: المَلَأُ: الأَشْرَافُ والرُّؤَسَاءُ.

الحَمْدُ للهِ الذي أَظْفَرَكَ:

أيُّها الإخوة الكرام: ويَتَقَدَّمُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لِيَقُولَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الحَمْدُ للهِ الذي أَظْفَرَكَ ، وَأَقَرَّ عَيْنَكَ، واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ تَخَلُّفِي عن بَدْرٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ تَلْقَى عَدُوَّاً، وَلَكِنْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عِيرٌ، وَلَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ عَدُوٌّ مَا تَخَلَّفْتُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «صَدَقْتَ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: تَخَلَّفَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ وَوَالِدُهُ عن المَعْرَكَةِ، وكَانَ سَبَبَ التَّخَلُّفِ هوَ حِفْظُ العُهُودِ.

يَقُولُ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ: مَا مَنَعَنَا أَنْ نَشْهَدَ بَدْرَاً إلا أَنِّي وَأَبِي أَقْبَلْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَأَخَذَتْنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: إِنَّكُم تُرِيدُونَ مُحَمَّدَاً.

فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، إِنَّمَا نُرِيدُ المَدِينَةَ، فَأَخَذُوا عَلَيْنَا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَصِيرُونَ إلى المَدِينَةِ، ولا تُقَاتِلُوا مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

فَلَمَّا جَاوَزْنَاهُم أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَذَكَرْنَا لَهُ مَا قَالُوا وَمَا قُلْنَا لَهُم، فَمَا تَرَى؟

فَقَالَ: «نَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِم، وَنَفِي بِعَهْدِهِم».

فَانْطَلَقْنَا إلى المَدِينَةِ، فَذَاكَ الذي مَنَعَنَا أَنْ نَشْهَدَ بَدْرَاً. رواه الحاكم.

أيُّها الإخوة الكرام: هذهِ صُورَةٌ مُشْرِقَةٌ في حِرْصِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِحِفْظِ العُهُودِ، وتَرْبِيَةِ أَصْحَابِهِ على مَكَارِمِ الأَخْلاقِ الرَّفِيعَةِ، وإِنْ كَانَ ذلكَ إِجْحَافَاً بالمُسْلِمِينَ، ومُفَوِّتَاً لَهُم جُهْدَ بَعْضِ المُجَاهِدِينَ.

جَزَى اللهُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَيْرَ الجَزَاءِ الذي عَلَّمَ الأُمَّةَ كَيْفَ يَكُونُ الوَفَاءُ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُم. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 25/رمضان /1436هـ، الموافق: 12/تموز/ 2015م