52ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (11)

 

 52ـ كلمات في مناسبات: غزوة بدر الكبرى (11)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: الجَزَاءُ من جِنْسِ العَمَلِ، الشَّأْنُ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، من نَسِيَ اللهَ تعالى في الحَيَاةِ الدُّنْيَا نَسِيَهُ اللهُ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ، ومن تَعَامَى عن هذا الدِّينِ هُنَا أَعْمَى اللهُ بَصِيرَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرَاً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: من الذينَ اسْتَثْنَاهُم سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَن نِطَاقِ الاسْتِشَارَةِ من أَسْرَى بَدْرٍ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ.

هذا الخَبِيثُ كَانَ من أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وكَانَ تَارِيخُهُ مُلَطَّخَاً بالسَّوَادِ.

﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾:

أيُّها الإخوة الكرام: هذا الرَّجُلُ نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلَاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولَاً﴾.

 لقد كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ مُتَصَافِيَيْنِ، حَسَنَاً مَا بَيْنَهُمَا، وكَانَ عُقْبَةُ قَد جَلَسَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَسَمِعَ مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِك أُبَيَّاً، فَأَتَى عُقْبَةَ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكَ جَالَسْتَ مُحَمَّدَاً وَسَمِعْتَ مِنْهُ، وَجْهِي مِنْ وَجْهِك حَرَامٌ أَنْ أُكَلِّمَكَ ـ وَاسْتَغْلَظَ مِن الْيَمِينِ ـ إنْ أَنْتَ جَلَسْتَ إلَيْهِ أَوْ سَمِعْتَ مِنْهُ أَوْ لَمْ تَأْتِهِ فَتَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ.

فَفَعَلَ ذَلِكَ عَدُوُّ اللهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ لَعَنَهُ اللهُ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلَاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولَاً﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ هذهِ الوَاقِعَةِ كَانَ أَشْقَى القَوْمِ في أَذَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولَمْ يَدَعْ مُؤَامَرَةً لِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلا وَشَارَكَ فِيهَا.

صُوَرٌ من إِيذَاءِ هذا الخَبِيثِ:

أيُّها الإخوة الكرام: من صُوَرِ إِيذَاءِ هذا الخَبِيثِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:

أولاً: روى ابْنُ سَعْدٍ عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَتْ:  كُنْتُ بَيْنَ شَرِّ جَارَيْنِ، بَيْنَ أَبِي لَهَبٍ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، إِنْ كَانَ لَيَأْتيَانِ بالفُرُوثِ فَيَطْرَحَانِهَا على بَابِي، حَتَّى أَنَّهُم لَيَأْتُونَ بِبَعْضِ مَا يَطْرَحُونَ من الأَذَى فَيَطْرَحُونَهُ على بَابِي.

ثانياً: جَاءَ في الرَّوْضِ الأُنْفِ، وَطِءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ على رَقَبَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ الكَعْبَةِ حَتَّى كَادَتْ عَيْنَاهُ تَبْرُزَانِ.

ثالثاً: روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي، أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ سَاجِدَاً فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِن الضَّحِكِ.

فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَثَبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ سَاجِدَاً حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ.

فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ».

ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ».

قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.

رابعاً: روى الإمام البخاري عَن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقَاً شَدِيدَاً، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلَاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ﴾.

خامساً: هذا عَدُوُّ اللهِ أَنْشَدَ شِعْرَاً قَالَ فِيهِ:

يَا رَاكِبَ النَّاقَةِ الْقَصْوَاءِ هَاجَرْنَا   ***   عَـمَّا قَـلِيلٍ تَـرَانِي رَاكِبَ الْفَرَسِ

أُعِـلُّ رُمْحِـيَ فِـيـكُـمْ ثُـمَّ أُنْهِلُهُ    ***   وَالسَّيْفُ يَأْخُذُ مِنْكُمْ كُلَّ مُلْتَبِسِ

فَبَلَغَ ذلكَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَكِبَّهُ لِمَنْخَرِهِ وَاصْرَعْهُ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: هذا المُجْرِمُ الخَبِيثُ عِنْدَمَا وَقَعَ في الأَسْرِ وَأَمَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِقَتْلِهِ، أَخَذَ يُجَادِلُ في مَقْتَلِهِ، فَقَالَ: يَا وَيْلِي، عَلَامَ أُقْتَلُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مِنْ بَيْنِ مَنْ هَاهُنَا؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لِعَدَاوَتِك للهِ وَلِرَسُولِهِ».

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنُّكَ أَفْضَلُ فَاجْعَلْنِي كَرَجُلٍ مِنْ قَوْمِي، إنْ قَتَلْتَهُمْ قَتَلْتَنِي، وَإِنْ مَنَنْتَ عَلَيْهِمْ مَنَنْتَ عَلَيَّ، وَإِنْ أَخَذْتَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ كُنْتُ كَأَحَدِهِمْ يَا مُحَمَّدُ، مَنْ لِلصِّبْيَةِ؟

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:«النَّارُ قَدِّمْهُ يَا عَاصِمُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ».

فَقَدَّمَهُ عَاصِمٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «بِئْسَ الرَّجُلُ كُنْتَ، واللهِ مَا عَلِمْتُ كَافِرَاً باللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ مُؤْذِيَاً لِنَبِيِّهِ، فَأَحْمَدُ اللهُ الّذِي هُوَ قَتَلَكَ وَأَقَرَّ عَيْنِي مِنْكَ».

نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخِتَامِ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 27/رمضان /1436هـ، الموافق: 14/تموز/ 2015م