472ـ خطبة الجمعة: أعظم عُرى الإيمان

.

472ـ خطبة الجمعة: أعظم عُرى الإيمان

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله: جَمِيعُ الخَلْقِ مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ تعالى في كُلِّ شُؤُونِهِم وَأَحْوَالِهِم، وفي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ.

مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ تعالى في أَمْنِهِم، فَكَيْفَ لا يَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ في خَوْفِهِم؟

مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ تعالى في عِزِّهِم، فَكَيْفَ لا يَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ في ذُلِّهِم؟

مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ تعالى في قُوَّتِهِم، فَكَيْفَ لا يَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ في ضَعْفِهِم؟

يَا عِبَادَ اللهِ: في هذهِ الأَزْمَةِ التي تَمُرُّ عَلَيْنَا تَعَلَّقَ النَّاسُ بالنَّاسِ، وَشَكَا النَّاسُ إلى النَّاسِ، ولا حَرَجَ أَنْ يَسْتَعِينَ النَّاسُ بَعْضُهُم بِبَعْضٍ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، لَكِنْ أَنْ يَكُونَ الاعْتِمَادُ عَلَيْهِم دُونَ اللهِ تعالى، فهذهِ طَامَّةٌ كُبْرَى، وهذا هُوَ الهَلاكُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ مَن تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ وُكِلَ إِلَيْهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ في تَقَلُّبَاتِ الدَّهْرِ عَجَائِبَاً، لَقَد تَوَالَتِ العَقَبَاتُ، وَتَكَاثَرَتِ الابْتِلاءَاتُ، وَطَغَتِ المَادَّةُ على كَثِيرٍ من الخَلْقِ، فَتَنَكَّرُوا لِرَبِّهِم، وَضَعُفَتْ صِلَتُهُم مَعَ اللهِ تعالى، وَاعْتَمَدُوا على الأَسْبَابِ، لِذَا سَادَ القَلَقُ والاضْطِرَابُ، والضَّعْفُ والهَوَانُ، وَعَمَّ الخَوْفُ من المُسْتَقْبَلِ، وَنَسُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ﴾.

﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا أَهْلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، يَا أَهْلَ بِلادِ الشَّامِ، يَا أَهْلَ سُورِيَّا، يَا أَهْلَ حَلَبَ، يَا أَصْحَابَ الحَاجَاتِ، يَا أَصْحَابَ الابْتِلاءَاتِ، يَا أَصْحَابَ الشَّدَائِدِ، أَلَمْ تَقْرَؤُوا قَوْلَ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾؟

أَيْنَ نَحْنُ من الشَّكْوَى للهِ تعالى؟ أَيْنَ نَحْنُ من الالْتِجَاءِ والإِلْـحَاحِ على اللهِ تعالى؟ وَاللهِ الذي لا إِلَهَ إلا هُوَ، لا كَاشِفَ لِمَا نَحْنُ فِيهِ إلا اللهُ تعالى، ولا تَوْفِيقَ ولا فَلاحَ ولا سَعَادَةَ ولا أَمْنَ ولا شِبَعَ إلا من اللهِ تعالى.

أَعْظَمُ عُرَى الإِيمَانِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الـتَّضَرُّعَ إلى اللهِ تعالى، وَإِظْهَارَ الحَاجَةِ إِلَيْهِ، والاعْتِرَافَ بالافْتِقَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، هُوَ من أَعْظَمِ عُرَى الإِيمَانِ، وَبُرْهَانُ ذَلِكَ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ مَعَ الإِلْـحَاحِ في السُّؤَالِ، لما رواه الحاكم عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَعْجِزُوا في الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَهْلَكُ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ».

وَيَقُولُ الفَارُوقُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنِّي لا أَحْمِلُ هَمَّ الإِجَابَةِ، وَلَكِنْ أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ، فَإِنْ أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ فَإِنَّ الإِجَابَةَ مَعَهُ.

وَقْفَةٌ مَعَ بَعْضِ آيَاتِ اللهِ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَقِفْ مَعَ بَعْضِ الآيَاتِ من كِتَابِ اللهِ تعالى، وَخَاصَّةً وَنَحْنُ نَعِيشُ هذهِ الأَزْمَةَ، حَيْثُ كَثُرَ الغَمُّ، والخَوْفُ، والمَكْرُ.

أولاً: لِنَقِفْ مَعَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾. هؤلاءِ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانَاً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾. فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟ النَّتِيجَةُ: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ واللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.

ومن هُنَا قَالَ سَيِّدُنَا جَعْفَرُ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: عَجِبْتُ لِمَنْ خَافَ، وَلَمْ يَفْزَعْ إلى قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾. لِأَنِّي سَمِعْتُ اللهَ تعالى بِعَقِبِهَا يَقُولُ: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾.

ثانياً: لِنَقِفْ مَعَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. هذا سَيِّدُنَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟ النَّتِيجَةُ: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْـمُؤْمِنِينَ﴾.

ومن هُنَا قَالَ سَيِّدُنَا جَعْفَرُ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: عَجِبْتُ لِمَنْ اغْتَمَّ، وَلَمْ يَفْزَعْ إلى قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. فَإِنِّي سَمِعْتُ اللهَ تعالى بِعَقِبِهَا يَقُولُ: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْـمُؤْمِنِينَ﴾.

ثالثاً: لِنَقِفْ مَعَ قَوْلِهِ تعالى على لِسَانِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، عِنْدَمَا خَافَ مَكْرَ قَوْمِهِ: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾. فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟ النَّتِيجَةُ: ﴿فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾.

ومن هُنَا قَالَ سَيِّدُنَا جَعْفَرُ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: عَجِبْتُ لِمَنْ مُكِرَ بِهِ، وَلَمْ يَفْزَعْ إلى قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾. فَإِنِّي سَمِعْتُ اللهَ تعالى بِعَقِبِهَا يَقُولُ: ﴿فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾.

رابعاً: لِنَقِفْ مَعَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الـضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. فَمَاذَا كَانَتِ نَتِيجَةُ هذا؟ النَّتِيجَةُ: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾.

ومن هُنَا قَالَ سَيِّدُنَا جَعْفَرُ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: عَجِبْتُ لِمَنْ أَصَابَهُ الـضُّرُّ، وَلَمْ يَفْزَعْ إلى قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الـضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. فَإِنِّي سَمِعْتُ اللهَ تعالى بِعَقِبِهَا يَقُولُ: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يا عباد الله: العَجِيبُ والغَرِيبُ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ ومُؤْمِنٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَيَعْتَرِفُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لماذَا نَتَعَلَّقُ بالفُقَرَاءِ الضُّعَفَاءِ العَاجِزِينَ؟ لا أَدْرِي، لماذَا نَلْجَأُ إلى المَخْلُوقِينَ، ولا نَلْجَأُ إلى الخَالِقِ تَبَارَكَ وتعالى؟ لا أَدْرِي.

ورَحِمَ اللهُ تعالى مَن قَالَ:

سَـلِ اللهَ رَبَّكَ مَـا عِـنْـدَهُ    ***   لا تَسْأَلِ النَّاسَ مَا عِنْدَهُم

ولا تَبْتَغِي من سِوَاهُ الغِنَى   ***   وَكُنْ عَبْدَهُ لا تَكُنْ عَبْدَهُم

اللَّهُمَّ فَرِّغْ قُلُوبَنَا من الأَغْيَارِ، ولا تَجْعَلِ اعْتَمَادَنَا إلا عَلَيْكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **      **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 28/ ربيع الأول /1437هـ، الموافق: 8/كانون الثاني / 2016م